الاثنين، مارس 27، 2006

حوار مع المهندس حمادي الجبالي





باسم الله الرحمان الرحيم

سوسة 21مارس 2006


أجرى الحوار محمد الفاضل



حوار مع المهندس حمادي الجبالي


القيادي في حركة النهضة


والمدير السابق لجريدة الفجر


على الرغم من أن الرجل لم يمضي على سراحه24يوماً فقد بدا السيد حمادي الجبالي المدير السابق لجريدة الفجر وقيادي الصف الأول لحركة النهضة الإسلامية، بعد الخمسة عشرة سنة التي قضاها في السجن حاضر الذهن متابعاً ومطلعاً على الشؤون الدولية والإقليمية والمحلية ملتزماً خط الاعتدال الذي عهده عليه من عرفه قبل سجنه، لا يزال يؤمن أن المشروع الإسلامي المعاصر مستقبله أفضل من ماضيه و خلال الزيارة التي قمنا بها كان لنا معه حوار، حمل مضمونه من المدلولات في مثل الظرفية السياسية الحالية التي تعيشها البلاد التونسية، أكثر مما حملته تصريحاته التي لم تكن في معظمها، لدى المنشغلين بالشأن التونسي، جديدة عن حركة النهضة. ، وقد بادرناه بعد الاطمئنان عن صحته و أحواله بالسؤال التالي:

  • بعد خمسة عشر عاما قضيتموها في السجن، كيف تقرؤون الآن مستقبل الحركة الإسلامية في الأفق السياسي التونسي الراهن ؟
لما خرجت من السجن، صدمتني ظاهرة الحجاب، فقد كنا من خلال القناة التلفزيونية الوحيدة، قناة سبعة، المسموح لنا مشاهدتها، نتابع البرامج المتعلقة بقضايا المجتمع، و كنا نلاحظ مع خروج الكاميرا إلى الشارع، ومن مسافة بعيدة لما ترصده العدسة، عودة ظاهرة الحجاب في الشارع التونسي وقد كنا نراها مؤشرات على فشل السلطة في ضرب ظاهرة التدين في المجتمع، ولما خرجت شاهدت ذلك في سوسة وأظن أن الأمر كذلك في كل المدن التونسية، وهي حقيقة ظاهرة كبيرة، ولا أقول أن هذا مرده الحركة، ربما يعود الأمر للفضائيات وللدروس والمحاضرات كما يعود الأمر إلى الحركة أيضا التي رمت البذرة الأولى. و من هنا فالإشكال بالنسبة للسلطة كما بالنسبة للنظام العالمي ولاسيما الآن، هو في التعامل مع هذا الواقع، الذي لم يعد بإمكانهم تجاهله ولا بإمكانهم متابعة السعي لاستئصال الظاهرة، بقي أن الأمر يخضع في عموم المسألة لإجتهادات محلية فكل نظام يشتغل على طريقته: المغرب والجزائر و مصر. أما تونس فأظن أن الإسلام السياسي في تونس لايزال يُـوَاجَه بخط أحمر يمنع وجوده، ولكن الظاهرة في المجتمع من حيث هي كذلك ما عاد بإمكانهم محاصرتها أو ضربها ولا إستئصالها، بينما عدم فسح المجال السياسي لوجود و لعمل الحركة الإسلامية، لم يعد النظام الدولي يوافق عليه، إذ صارت تلك الأنظمة تفكر على نحو مغاير فإما القبول بهذا المعتدل وإما سيواجهون ابن لادن... ولا وجود لغيرهما.

سألتني البارحة قناة الحرة: أمام انتصارات الحركات الإسلامية في مصر وفي فلسطين وفي المغرب بكم ستفوزون في انتخابات سنة2009 ؟ قلت لها أن هذا الموضوع لم يحن وقت الحديث فيه بعد، فنحن لدينا الآن قضية أخرى هي قضية الحريات.إذن لم يعد أحد يفكر في عدم منح الحركة الإسلامية حق العمل السياسي وإنما ما أصبح يُـْطرح الآن بصيغ جديدة هو: كيف نروضهم ؟ كيف نتعامل معهم ؟ كيف نحافظ على مصالحنا الاقتصادية ؟ كيف ستكون العلاقة مع إسرائيل ؟ كيف يَـنظر هؤلاء للغرب ؟ إذا كان صعودهم حتمي فعلى الأقل علينا أن نقبل بالتعامل مع المعتدل منهم..فهناك قناعة لدى الدول الغربية في هذا الاتجاه ما عدى فرنسا وإيطاليا أوالضفة اللاتينية من أوروبا والتي كان لها تاريخ صدامي مع العالم الإسلامي، فأظن شخصياً أن النظام الدولي تخلى عن فكرة استئصال الإسلاميين، لصالح السؤال كيف نتعامل معهم في ظل الواقع الراهن؟ وعليه لايمكن للنظام التونسي أن يشذ عن هذا المناخ الجديد.

  • هذا على النطاق الدولي أما على النطاق المحلي فيبدو أن الحالة التونسية حالة استثنائية وهذا يعني أن النظام التونسي الذي قاد حملة لإستئصال الحركة الإسلامية وتجفيف ينابيعها قد لا يتراجع عن نهجه و يسمح بعودة الإسلاميين مجدداً، وأن أزماته التي يعانيها الآن قد تستنسخ منه جيلا جديدا لنظام سبعة نوفمبر جديد، يصوغ تحالفاً جديداً مع المعارضة ليقطع على الحركة الإسلامية طريق العودة وربما أيضاً ليعد لاحقاً دورة جديدة من الاعتقالات ؟
لا أتصور أن يكون هناك نفس الأسلوب ونفس المعالجة، بل لم يعد من الممكن إنجاز ذلك، فالمحاكمات السياسية الآن أصبحت مفضوحة و مغطاة إعلامياً، بل لم يعد الوضع الداخلي يقبل بها ولا القوى الدولية، فأكثر ما بالمقدور الآن هو محاصرة الحركة أو عزلها، يبدو أنهم الآن في طريق معالجات أخرى ذات طبيعة سياسية وثقافية. فالنظام التونسي يتباه بأنه إستأصل الظاهرة من جذورها، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن ما قام به ارتد عليه سلباً، فقد إنفلت المجتمع وانطبع بسلوك عنيف..ولوأنهم فكروا جيداً كانوا تنبهوا إلى أن التوازنات الاجتماعية مثلها مثل التوازنات الطبيعية,فالصين قاومت العصافير التي تأتي على المحاصيل الزراعية فكثر البعوض، أيضاً حاولوا تحديد الولادات فأجهضوا الإناث من بين الأجنة أوقتلوا المولودة فكثر الذكور وقل الإناث ،فالتوازن الطبيعي جعله الله سبحانه وتعالى توازناً دقيقاً وجميلا وخطيراً والأمر مماثل مع التوازن الاجتماعي ، فحين تغلق باب المسجد و تواجه ظاهرة التدين فإنك ستفتح للشر أبواباً أكبر مما يُـتوقع ، فيختل التوازن الاجتماعي، وقولهم لتقضي على ظاهرة التدين افتح أبواب الفساد والإفساد، و هذه البساطة التي تم التعامل بها مع ظاهرة التدين هي التي أضرت بالمجتمع، فكان التميع الثقافي والتسطح الفكري والتحلل الخلقي في المهرجنات والعنف في ملاعب كرة القدم ..وفي سياق المنظومة التربوية جيء على مضون معهد الشريعة وأصول الدين ثم تم تطوير و إعداد المنظومة القضائية. في الثقافة جيء بالهرماسي ليلعب دوراً كبيراً لكونه مختص في الحركة الإسلامية من منظور سوسيولوجي وعلي الشابي في وزارة الشؤون الدينية وعبد الله قـلال في وزارة الداخلية وصادق شعبان في وزارة العدل ومحمد الشرفي في التعليم فالمنظومة واضحة فجميعهم كانوا يفكرون في تطوير وسائل النظام ومناهجه الإستئصالية ويلتقون جميعهم مع النظام في هذه المسألة، لكن يبدو أنهم توصلوا اللآن إلى أن هذا المشروع الإستئصالي قد فشل وأن الحلول الأمنية قد فشلت وأن المعالجة الثقافية للمجتمع من خلال بدائلهم السطحية تبين فشلها وأن محاربة التدين أضرت بهم فظهر السلفيون أو الجهاديون ولست أدي بالضبط من هم فقد قيل لي أن لبـوكاسة(*) ابن صار سلفياً وأنه ظل يترجاه ليكون نهضوياً بدلاً مما هو عليه اللآن، ولقد قلنا لهم ونحن في السجن: نحن الآن نحاوركم ونناقشكم ولكن سيأتيكم من لن تجدوا معه أي سبيل للنقاش والحوار، وقد أصبح عدد منهم اللآن في السجن، سيكفرونكم ولن يمنحوكم أي مجال للتحاور. فنحن نناقشكم في الرياضة وفي الفن وفي المسرح وفي السينما..ورجال النظام اللآن يعترفون بذلك و لم يعد النظام يدر أين المسير، فقد كان يتصور أنه عليه أن يقضي على حركة النهضة و يشتت أبناءها ويفرق بينهم ثم سينظر بعد ذلك في اللأمر..

  • النتيجة التي إنتهى إليها تاريخ البلاد هو أن ضرب حركةالنهضة اقتضى شن أكبر حملة أمنية منذ1956 وانبرى النظام على إثرها يخوض حرب استنزاف قصوى على المجتمع التونسي، فاستئصال الحركة الإسلامية إحتاج إلى ضرب مكونات المجتمع التونسي العريقة ومكاسبه المدنية وقواه الحية والاعتداء على قوانينه الناظمة و إنتهاك دستوره المؤسس وتعطيل مؤسساته الفاعلة.فإذا كان ضرب الحركة الإسلامية والسعي وراء استئصالها قد كلف المجتمع التونسي كل هذه الخسائر ،فماذا يمكن للحركة الإسلامية في حال عودتها مستقبلاً أن ترشح نفسها لتقديمه للمجتمع التونسي سواء من أجل إصلاح ما أفسده النظام في حياة التونسيين ومجتمعهم أوما يمكن أن تقدمه الحركة من نماذج مجتمعية جديدة تخرجهم عن الصورة النمطية التي رسخها إعلام السلطة عنهم وخصومها على حد سواء ؟
لذلك أقول أن داخل الحركة هناك تطور إيجابي رغم ما يبدو أحياناً من هنات بنتيجة المخاض والظروف الاستثنائية التي نعيشها، كما أن على الحركة الإسلامية أن تعمل داخل المجتمع بإيمانها بقضية الحريات و بقضايا حقوق الإنسان، ليس من باب التكتيك لأجل الوصول إلى غاية ما، وإنما بوصفها قيم أساسية في خطابنا وليس هذا في واقع الأمر خارج عن قيمنا ولا هو بجديد علينا بل مؤصل له.

  • وهذا ما يشجعنا على القول لو أن الحركة الإسلامية دفعت للسجون من أجل قضايا حقوق الإنسان والحركة المجتمعية ما دفعته من أبنائها مقابل خياراتها السياسة الظرفية، كانت كسبت رسوخ قدمها في المجتمع التونسي وبنت تحالفات سيكون من الصعب على النظام التونسي بعدها أن يعزلها أو يستأصلها.
كنا قبل 90و91 من السباقين في الدعوة للعمل المشترك، لوتذكرون جلسنا مع الحزب الشيوعي وعملنا ضمن لجان مشتركة فلم تكن الحركة غائبة عن الساحة، بل كانت سباقة لجمع المعارضة.والإضافة التي يمكن أن نقدمها للمجتمع هي إنخراط الحركة في الدفاع عن الحريات، بل يجب أن تكون قضية الحريات في طليعة مشاغلها، تمارسها في داخلها وخارجها. وعلينا أن نوضح نظرتنا في مسألة المرأة وحقوقها ليس في قضية الحجاب وحسب وإنما في حقوقها الأخرى التي يزايدون بها علينا، فهم يعتبرونها كما يقول إبن علي السد المنيع لصد الحركة الإسلامية.وللأسف أخطأ الإسلاميون في الكويت حين لم يعترفوا بحق المرأة في الانتخاب وحقها في المشاركة في الحياة السياسية، وانتهت المسالة على عكس من ذلك وهم الآن يخسرون المعركة، وكسبت المرأة الكويتية حقها في الانتخاب.

كما أن الكلام عن التعددية في الحياة السياسية والتداول على السلطة يجب أن يوضح للناس فالقول بالتعددية ليس جديداً عندنا بل هذه المسائل مأصلة في فكرنا وفي الفكر الإسلامي المعتدل فأنا أتصور أن هذا هومستقبل طريق الحركة الإسلامية وقد أوضحت الحركة في مؤتمر لندن أنها حركة سياسية و مدنية وسلمية ولكن اليوم هناك من بين الحركة السلفية أو الجهادية من يلومنا على اختياراتنا هذه، الواقع مهما يكن من أمر لا يمكنني الاعتراض علي إجتهادات مهما كانت أو إدانتها، فلها أن تعمل كغيرها في الساحة فقد يكون لها حججها وأدلتها الشرعية وعلينا أن نعمل نحن أيضاً فنحن لنا اختياراتنا ولا نرى أن حركة النهضة عليها أن تجمع المسلمين جميعهم حولها فللمؤمن بأفكارها ومنهجها يمكنه أن يعمل معها وسنعذر من يخالفنا ولكن الخطر أن يتحول الخلاف إلى تكفير وربما إلى تقاتل، فالمجتمع يسع الجميع ويمكن أن تكون تلك الإجتهادات مع اختلافها عن بعضها البعض مفيدة بكل حال فالمشكل إذاً يكمن في التكفير ومخاطره. فلما لا تنشط جماعة الدعوة والتبليغ مثلاً وغيرها ؟ فما لا تستطيع إنجازه حركة النهضة أوتعجز حتى على إنجازه قد تسهم في إنجازه غيرها.

  • فكر التعددية السياسية وحقوق الإنسان وقيم الحرية كما أسلفتم ليس جديداً في خطاب الحركة لكن هناك من لايزال يتمسك بالتشكيك في جدية ما تطرحون لكون سقف الحقوق الذي بإمكانكم أن تشتغلوا عليه منخفض ودون سقوف الحقوق التي يناد بها غيركم.ولأكون أكثر دقة فحقوق الإنسان التي يتحدث عنها الآخرون تتعلق بالحريات الفردية أيضاً وحقوق المرأة بما فيها من حقها في الزواج بالأجنبي وفي ملكية جسدها و المساوة في المراث، فمن هذه الناحية وأنتم تتحدثون عن حقوق الإنسان يبدو سقفكم منخفض جداً برأي خصومكم.
ماذا يعني السقف المحدود؟ هناك في مرجعيتنا ما هو معلوم من الدين بالضرورة ولسنا في وارد مناقشته وليس لنا أن نحل ما حرم الله ونحرم ما أحل، لكن النقاش يمكن أن يدور حول فهمنا لهذه القضايا: المساوة بين الرجل والمرأة ومسألة الإرث وغيرها.فهل سمح لنا بأية فرصة لحوار حقيقي لإبداء رأينا في المسألة ؟ لكن لنفرض جدلاً أن لدينا سقف، فهذا السقف ليس نحن من نحدده وإنما مرجعيتنا الإسلامية والنص الصريح، فنجتهد فيما يسمح به المجال للإجتهاد ونتوقف عند النص القطعي.لكن حتى هذا لو إختار الناس عن طوعية وبحرية شيئاً أخر غير السقف الذي نلتزمه ونتبناه فلهم ذلك المهم أننا لن نفرض على الناس أي شيء، وحمل الناس على رأي بالإجبار والإكراه أو بالقوة ليس سبيلنا ولا نهج عملنا.فنحن نقول: لدينا خياراتنا ولدينا حدودنا و هي معلنة ولانخفيها أبداً. فمثلاً تعدد الزوجات نحن لانحرمها لكن نقبل بتقييدها إلى حد قد تصبح غير ممكنة، فالتعدد في حال الزواج هو حل استثنائي وليس القاعدة, ففي شروط معينة يمكن للقاضي أو الحاكم أن يحددها، لكن لن نأتي بنص لنحرمها. وإذا كان هذا رأينا في المسألة و إذا تركنا للجميع مجالاً متساوياً لإبداء أرائهم بحرية فالأمر متروك بعد ذلك للناس أن يختاروا بحرية ما يشاؤون فالمشكل الحقيقي في واقع الأمر أن الصراع الفكري والسياسي في تونس يحسم بالبوليس، فهم يتيحون لغيرنا فرص التعبير ولا يسمحون لنا بها، لكن إن توفرت الفرص لي ولغيري بصورة متساوية للتعبير فإن إختار الناس حكماً غير الذي ننادي به فلهم ذلك، وسنبقى حينئذ في المعارضة نشتغل لأجل خياراتنا وندافع عن أرائنا حتى لو لم يقبلها غيرنا لكن لن نفرضها على أحد المهم أن لا نـُحرَم من حقنا في التعبير.

  • هذا ما يتعلق بمستوى البحث في مسألة حقوق الإنسان في خطاب الإسلاميين والمتعلق بسقفها عندكم ولكن من ناحية أخرى يجد غيركم في بعض المشاريع التي يحملها خطابكم ما يشرع بصورة ما انتهاكات لايقرها اليوم، الميثاق العالمي لحقوق الإنسان من مثل الحدود الشرعية في حال السرقة والزنى ونحوهما، ومن ثم فحتى في حال التعامل بحسن الظن مع خطاب الحريات في حركتكم، تبقى هذه الموضوعة في خطابكم، كما يرى خصومكم جزءاً من مناوراتكم السياسية التي تقتضيها مرحلة أنتم فيها اليوم مستضعفون.
يجب أن نفهم السياق الشرعي لإقامة الحدود فهي ليست مطلقة في كل حين في تطبيقاتها أو بمعزل عن ظروف تشترطها أو دونما إطار إجتماعي وسياسي تستلزمهما، فالحدود مقيدة وهي آخر ما يمكن أن نصل إليه و ظروف تطبيقها هي ظروف مشددة عليها و صعبة مثل مسألة الرجم في الزنى وما يشترطه تطبيق الحد من شهود أربعة وغيرها تجعل تطبيق الحد يقارب المستحيل أحياناً، وحتى في هذه الحالات هناك ظروف ثقافية واجتماعية قد لاتتيح للحاكم إمكانية التطبيق فحين نصل لتطبيق الحدود فلن يكون هناك من عذر يشفع من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فأحد أصحاب المال حين اشتكى إلى عمر إبن الخطاب عماله لسرقتهم ناقته وعلم عمر بعد ذلك منهم أن صاحب المال لم يعطهم ما يستحقون من أجر مقابل أعمالهم لفائدته أنذره عمر بالقصاص إن لم يرد لهم حقهم، فما يستفاد من هذا أن اشتراط العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بوصفهما مقدمة للقضاء بين الناس يشرح بوضوح سياق التطبيق للحدود الشرعية. فإذا كانت هذه المقدمات الاجتماعية والإقتصادية قد توفرت وأحدث أحدهم مثل هذا الجرم فقد صار مفسداً، فإذا كان كل شيء قد توفر له، مع أن ذلك أمل طوبوي، فقد سقط عنه العذر وقامت عليه الحجة.

فمسألة تطبيق الحدود إذن ليست مطلقة وهي مرتبطة بشروط تقيد تطبيقها والمؤسف أن تطبيق الحدود الآن في وضعية غير سليمة، ففي العربية السعودية وحدهم الفقراء الذين يقام عليهم الحد بينما يتقاسم بضعة ألاف من أمراء العائلة المالكة خيرات البلاد جميعها.والوضع ذاته جرى مع الطالبان في أفغانستان وحتى الجبهة الإسلامية للإنقاذ أول صعودها كانت تحرص أن يزيد طول البنطلون القصير إن لزم لبسه إلى ما تحت الركب...فهذه النظرة الضيقة لتطبيق الشريعة أضرت بنا حقيقة وهي تنم عن عدم فهم لما توجبه فكرة الحدود من ضرورة توفر مناخ راقي من العدالة الاجتماعية أولاً.

  • مع أنكم قبلتم باللعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة كما عبرت أدبيات الحركة وتصريحات قياداتها منذ1981 إلا أن كثيرون لا يزالون يشككون في صدق نواياكم وأنه بمجرد وصولكم للسلطة في يوم لن تسمحوا بها لغيركم في أي يوم.
هذا التشكيك ليس له من أساس فإذا كنا مقتنعين بموجب آي القرآن الكريم أنه لاإكراه في الدين فكيف لنا أن نكره الناس على خياراتنا و برنامجنا السياسي؟ فقضية الحرية هي قضية مركزية في الإسلام و للأسف يراد للحرية أن تقدم على أنها مقولة جديدة في خطابنا كما يراد لنا دائماً أن نظهر بصورة المتطفل على هذه المسألة ونحاول اللحاق بأخرين كما لوأننا أعلنا التوبة وأدركنا أخيراً طريق الصواب.فالتداول على السلطة من الثوابت في فكرنا لأننا نقر بنتيجة الانتخابات الصادرة عن إرادة حرة، فالمسألة بالأساس تتعلق بالقضية المحورية التي هي قضية الحريات.

  • السيد حمادي الجبالي نشكركم على سعة صدركم ونسأل الله لكم التوفيق ولإخوانكم السراح العاجل من السجون و للمغتربين منهم العودة القريبة من الشتات.


(*) بـوكاسة: هو اللقب الذي يُـكنى به عبد الرحمان القاسمي، أحد أشهر الجلادين في الأجهزة الأمنية التونسية، والمعروف لدى الإسلاميين بشراسته خلال التعذيب وهو أيضاً من بين أكثر شخصيات تلك الأجهزة قرباً لبن علي نفسه.

الأربعاء، مارس 15، 2006

هل من وقفة مع الهاشمي المكّي

باسم الله الرحمان الرحيم

بقلم محمد الفاضل


تونس 15.03.2006


لقد أدخل نبأ إطلاق سراح الأخ الهاشمي المكي يوم الأربعاء 14.03.2006، في نفوس جميع أحبائه الفرح والسرور، ولئن كان هذا النبأ لعائلته مفاجأ فقد كان أيضاً لبعض أصدقائه مستغرباً ، وربما نستطيع اليوم أن نتفهم إستغرابهم بالنظر إلى ما إعتاده الناس عن نظام السابع من نوفمبر من جدولة قيمه ومبادئه ضمن روزنامة من المناسبات السنوية جعل فيها للتضامن يومه وللتسامح يومه وللترث يومه وللنساء يومهن...وللعفو عن السجناء يوم..

لكن بعد نحو عشرين يوما من الإفراج الذي شمل ما يزيد عن السبعين من الإسلاميين من أبناء حركة النهضة الإسلامية ومجموعة شباب جرجيس في الأيام 25و27من شهر فيفري 2006، اُخلي سبيل الأخ الهاشمي المكي المحكوم بـ 37سنة سجن في إطار محاكمات أبناء حركة النهضة الإسلامية.وقد جرى إشعاره بهذا القرار بعد أن نزعت الأغلال من رجله الموثقة إلى السرير في مستشفى عبد العزيز مامي بريانة.

كان الهاشمي المكي الذي قضى 10سنوات خلف القضبان منذ1995 يشتكي منذ فترة طويلة إصابته بعـدة أمراض، وجميع مساعيه لرفع طلباته إلى إدارات السجون التي يُنقل إليها لتمكينه من المعالجة وإجراء الفحوص الضرورية، وكل إستغاثات زوجته التي حاولت بها لفت أنظار من يعنيه الأمر للتدخل قبل مجيء زكرياء بن مصطفى وبعده،لم تجد لها من سامع أو مجيب..

وحدها إضرابات الجوع الوحشية التي دخلها الهاشمي قبل 18أكتوبر 2005 وبعدها، ثم ما بدا فعلاً من تدهور واضح لحالته الصحية قد بعثت في إدارة السجون مخاوف وقوعها تحت طائل المسؤولية فيما لوتردت حالته إلى الأسوء، فأذنت منذ نحو شهر بنقله إلى المستشفى للمعالجة.

يوم اُعلن الإفراج عن المساجين في 25فيفري 2006إعتقد كثيرون من أصدقاء الهاشمي وأحبائه يقيناً، أنه سيكون من ضمن المفرج عنهم ولعل حالته الصحية المتدهورة وحدها تدفع بالظن أنها ربما تكون كفيلة لمراعات الدواعي الإنسانية التي يُـبَرر بها كل عفو رئاسي في مثل تلك المناسبات السنوية، و ربما تــشحذ أوهاماً بريئة لدى عائلته طمعاً في رحمة ممن طلع علينا ذات يوم ليقول أن التونسي للتونسي رحمة.لكن خيبة للأمال صدمت مجدداً عائلته وظل الهاشمي موثقاً إلى سريره بأغلال شهدها جميع من تمكن من عيادته في غفلة أعوان الأمن الذين وضعوا لحراسته عند أول قسم الأمراض الصدرية بالمستشفى.ورغما عن سوء حالته الصحية فقد أعيد الهاشمي المكي إلى سجن 9 أفريل فجأة وظل هناك لأيام قبل أن يعاد نقله مجدداً إلى ذات المستشفى ويَـنزع رجال الأمن بعد بعض الوقت، أغلاله ويُـخطر بقرار إخلاء سبيله بصورة مفاجأة أيضاً.

ما يجب أن نسجله ههنا هو أن نظام السابع من نوفمبر لم يستطع أن يجعل من سراح الهاشمي المكي مناسبة إحتفالية تضاف إلى أرصدته الإنسانية، كما لم يجد له في مثل هذا التوقيت من بين قيمه المجدولة يوما مناسباً في روزنامته السنوية وخمسينية الإستقلال باتت مناسبة ضاغطة تدفعه ليتنازل عن مواعيده المعتادة مع العفو والرحمة. فيعجل بالإفراج عن السجناء في25فيفري بصورة بدت مفاجأة و يخلي سبيل الهاشمي المكي من غير إنذار ولاترتيبات إدارية مع إدارة السجون.

لم يعد نظام ابن علي يحتمل تشويش المعارضة على مناسباته الوطنية فبيان منظمة العفو الدولي منذ أسبوع الذي تناول حالة الهاشمي المكي الصحية، ثم حديث قناة الجزيرة إلى زوجته، كانا قد وضعا النظام في وضع مماثل لذاك الذي عاشه يوم23و24فيفري 2005حين غطت الجزيرة النداء الذي دعت فيه حركة 18 أكتوبر للتجمع لليوم الموالي كما وضع حقيقة نظام ابن علي في وضع الإضطرار لإصدار قرار الإفراج عن المساجين السياسيين.

غير أن استبشارنا بخبر إطلاق سراح الأخ الهاشمي المكي لا تـُذهب عنا مخاوف ما قد تؤول إليه حالته الصحية في ما لوأثبتت التحاليل المخبرية أن سرطان بغشاء الرئة قد أصابه.ووفق ما أفاده طبيب القسم فإن العلاجات الأولية قد تحتاج إلى مبالغ مالية لاتقل عن أربعة عشر ألف دينار تونسي وهو ما يزيد في حراجة وضعه من الناحية المادية.

إن المسؤولية اليوم تقع في عاتق كل وطني شريف وكل من يجتهد ويعمل من أجل فك كرب المكروبين ورفع الظلم عن المظلومين أن لا يدع مأسي أصابت أخرين من أبناء وطننا وإخواننا تتكرر، كانوا قد قضوا في سجون ابن علي أوخارجه بسبب الإهمال الصحي.وليذكر الجميع أن سحنون الجوهري والحبيب الدريدي ولطفي العيدودي ونجاة الماجري وعلي الدريدي ونور الدين بن دعد وعبد المجيد بن طاهر... كانوا بعضاً من عناوين تلك المآسي التي قاساها ويقاسيها السجناء السياسيون في سجون نظام السابع من نوفمبر.

وحتى لا ينقضي زمن كان بإمكاننا أن نُـسعد عائلات ونحفظ فيه حياة، فإن أمالاً كبيرة لازالت تؤمن أن شرفاء تونسيون لايزال نبض الإنسانية يخفق في قلوبهم وغيرة على الإنسانية المهدورة تثير فيهم شهامة الدين والتاريخ.
فهل من شريف يسعى في كرب أخيه الهاشمي المكي ؟


وبالله التوفيق

يمكن الإتصال بالأخ الهاشمي أوأحد أفراد عائلته على الرقم التالي:20139953



إقرأ أيضا

إفراج مفاجئ عن الهاشمي المكي
وإخلاء لسبيله بالمستشفى

تونس 14.03.2006

بعد نحو شهر قضاها الأخ الهاشمي المكي بمستشفى عبد الرحمان مامي بريانة مغلولاً الرجل إلى سريره وتحت حراسة أمنية، لإجراء فحوصات ضرورية بعد أن تدهورت حالته الصحية بصورة خطيرة في الآونة الأخيرة، قامت السلطات المختصة لدى وزارة الداخلية خلال الأيام القليلة الماضية بإرجاعه إلى سجن 9 أفريل.

والأخ الهاشمي المكي الذي يقضي منذ1995 حكماً بالسجن لمدة 37سنة في إطار المحاكمات التي شملت أبناء حركة النهضة الإسلامية، يعاني منذ مدة طويلة عدداً من الأمراض في مرحلتها المتقدمة.ورغم المطالب التي لم ينفك يرفعها إلى إدارات السجون التي تنقل إليها، للعناية بحالته الصحية، ورغم النداءات التي وجهتها زوجته السيدة صبيحة الطياشي منذ وقت طويل إلى المسؤولين وإلى المنظمات الإنسانية والحقوقية وإلى الإعلام لتدارك وضع زوجها الصحي، فإن إدارة السجون والسلطات التونسية ذات العلاقة لم تلتفت إلي زوجها بالعناية اللازمة وتركت الأمراض الخبيثة تنهش جسمه.

غير أن إدارة سجن 9 أفريل أعادت الأخ الهاشمي المكي يوم الاثنين 13 مارس 2006 إلى مستشفى عبد الرحمان مامي بريانة، وبصورة مفاجأة فك اليوم الثلاثاء 14مارس2006رجال الأمن أغلال الأخ الهاشمي المكي وأعلم أنه أصبح طليقاً منذ الآن.

وبرغم استبشارنا بنبأ إطلاق سراح أخينا الهاشمي إلا أن معرفتنا بما عليه حالته الصحية بحسب إسترشادات حصلنا عليها من جهات مختصة تنغص فرح أهله وفرحنا.

ووفقاً لتقرير سريري إستفدناه من جهات مختصة فإن الأخ الهاشمي ربما يعاني من سرطان بغشاء الرئة، والتقارير المخبرية وحدها يمكن أن تأكد هذا التشخيص أوتفنده.

وإذ نسأل الله العزيز القدير لأخينا الهاشمي الصحة والعافية فإننا نوجه عناية السادة القراء وكل الخيرين داخل البلاد التونسية وخارجها أن يعملوا بما وسعتهم جهودهم للوقوف مادياً ومعنوياً مع أخينا الكريم بغاية معالجته حالته تلك علماً أنه إبتداءاً من اليوم فإن إقامته بالمستشفى ستكون على حسابه الشخصي وهو لا يرغب في الوقت الحاضر بالمغادرة إلى أن يستوفي العلاج.

يمكن الإتصال بالأخ الهاشمي أوأحد أفراد عائلته للسؤال عن صحته وتهنأته على الرقم التالي:20139953 وللأسباب الصحية التي أوردنا وجب التنبيه إلى عدم الإطالة، وللخيرين الشكر، وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

الأربعاء، مارس 08، 2006

السجن السياسي في تونس. بين الخيارات الأمنية وأحلام الإنفراج

الجزء الأول



بقلم محمد الفاضل


باسم الله الرحمان الرحيم

إن حلفاء نظام ابن علي الإستراتيجيين و حلفائه الموضوعيين حين يجعلون من السجن السياسي منحة يجب عدم مكافأة الإسلاميين بها، ويكتفون بالشفقة الزائفة على إنسانيتهم المهدورة، يدركون مع ذلك أن السنين الخمسة عشر التي اُهدرت فيها إنسانية الإسلاميين في السجون وخارجها كان نظام ابن علي، على مرأى منهم ومسمع، قد أهدر فيها أيضاً كرامة التونسيين جميعهم وإنتهك حقوقهم الإنسانية وصحر حياتهم السياسية.كما أنهم يدركون، لا محالة، أن عشرات الألاف من السجناء الإسلاميين( نحو 25ألف إسلامي أدخل السجن بين 1990 و 2005) جاؤوا من خلفية ثقافية وتاريخية لا تزال برغم كل شيء تنبض بالحياة.. وأياً كان رأي الخصوم، في مشاريع الإسلاميين فإنهم، قبل إغلاق جامع الزيتونة وبعده، كانوا لا يترددون في مواجهة مشاريع التغريب و في دفع التضحيات مقابل خيارات، لهم في أدبياتهم ما يأصلها و في وطنيتهم ما يشهد لها. و بكل حال، لا يزال الإسلاميون يمثلون خياراً منافساً يجد دوماً في الاستجابة الجماهيرية لهم ما يبرر وجودهم حتى ولو ظلوا لسنين، رهائن السجون المعتمة وأن السجن السياسي ليس بدعة في تاريخهم، ليمنحهم المخلفون شرفه، وأن تجربتهم التاريخية كانت بتضحياتهم، ترفع دوماً من سقف أمالهم وآمال شركائهم السياسيين وتصنع بمحنتهم جذوة نضال لأجيال لاحقة.

المقدمة

لا يزال ملف السجناء السياسين في تونس من أكثر الملفات السياسية إثارة في أوساط التونسيين وعموم المنشغلين بشؤونها الداخلية، وعلى الرغم من أن ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى، تحتل الصدارة أيضا في تفكير العاملين في الحقل السياسي التونسي والمهتمين بمجرياته، إلا أن ملف السجناء السياسيين بتونس بخصوصياته الجامعة ظل يستأثر بعلامة فارقة ميزت التعاطي السياسي لنظام السابع من نوفمبر مع مختلف تكوينات الحياة المجتمعية في البلاد منذ أول التسعينات.

ومع الأهمية المصيرية التي تحتلها قضايا أخرى تلامس الحياة النابضة للمجتمع التونسي، ومع أن قضايا حق التعبير والإعلام من جهة وحق التنظم الجمعياتي والحزبي من جهة ثانية، ومع الضرورات الملحة التي تستدعيها الحاجة إلى مجابهة فساد الدولة والقائمين عليها من جهة ثالثة، فإنه ليس من قبيل المفاضلة في شيء و لا من باب المزايدات التي لم تعد تجود لأي أحد بمغنم بعد أن جفت ضراع السياسة طوال السنين العجاف المنقضية، أن يكون تقديرنا لقضية المساجين السياسين بمقام القضية الأم بالنظر إلى غيرها من القضايا التي تشغل الساحة التونسية، فإذا كانت قضايا حق التعبير والتنظم على أهميتها الحيوية أسٌ التنمية السياسية والإجتماعية و الاقتصادية و الإنسانية في تونس كما ينشدها الأحرار، فإن ملف السجناء السياسيين يختزل أكثر تلك القضايا وكل تلك الآمال التي يرفع لواءها مناضلو حركة الإصلاح الديمقراطي.


السجن السياسي و تعميم أنظمته المجتمعية في النسخة التونسية

لقد نجحت دولة السابع من نوفمبر في أن تفسَخ جميع مكونات المجتمع المدني التي راكمتها تجارب التونسيين في علاقاتها الجدالية سواء في مواجهة الاستعمار أوفي مجابهة دولة الاستبداد البورقيبي سابقاً ومع نجاحها ذاك، استطاعت خلال ما يزيد عن العقد ونصف العقد أن تستدرج الجميع للإيقاع بجيل كامل في دوامة جلد الذات السياسية وإكراهها على التنكر لتاريخها في مجابهة الاستبداد ودفعها لنسيان ذاكرتها الوطنية.وهي حين تفعل ذلك فإنها تعمل من أجل أن يتحلل التاريخ السياسي التونسي المعاصر إلى دراما أبدية كتلك التي جاء ت بها مسوخ التغيير منذ1987 بعدما وضعت إبتداءاً من التسعينات كل أنواع المحاذير أمام الكتاب والقصيدة والرواية والصحيفة والصورة والرأي لتنتهي الحياة الفكرية والإبداعية و الصحفية والإعلامية في أيدي المأجورين والمنتفعين يقررون أينما شاءوا خطوطها الحمر، فحين يتحلل التاريخ إذن على ذاك النحو ستكون السجون خيار من أبت نفسه إلا أن يمسك بالقلم ويصدع بالكلمة وينثر الفكرة. وحين يتحلل التاريخ السياسي على ذاك النحو أيضا بحيث يرتد حق التنظم ألجمعياتي والحزبي إلى الحق في بعث أحزاب وجمعيات وهيأت تتناسلها أجهزة الأمن وتصنع رجالها وكوادرها في مراكز التكوين بوزارة الداخلية، وتملأ بالمال العام جيوبهم، فعلى الشريف المناضل من رجال السياسة إن رام خوض غمار العمل النضالي بعيدا عن أخلاق اللزمة السياسية وسلوك المقاولات، أن لا يكون السجن، في الوقت الحاضر على الأقل، أخر خياراته المفتوحة.

إن مسألة السجن السياسي هي أم قضايا الشأن السياسي التونسي في الوقت الراهن لكون السجن لايُعتبر فقط أداة تهديد ضد الفاعلين في المجتمع أفراداً أو جماعات ممن أخذوا على عاتقهم مواجهة فساد الدولة واستبدادها، بل لأن السجن صار عنواناً للإقصاء السياسي والاجتماعي تحت أكثر من مسمى:

  • فبإسم الأحكام القضائية الصادرة عن وزارة العدل: يتم الإقـصاء داخل السجن مع سجناء الحق العام أو في العزلة السجنية.



  • وباسم المراقبة الإدارية والأمنية الصادرة عن وزارتي العدل والداخلية: يتم إقـصاء السجناء المُسرحين أوالمغضوب عليهم بعزلهم عن الناس داخل المجتمع ومنعهم من استعادة وظائفهم السابقة ودفعهم، إن سُمح لهم، إلى العمل في الأشغال المرهقة و لساعات طوال في اليوم من أجل أجور زهيدة، ناهيك عن سحب جوازات السفر وبطاقات الهوية ومراقبة تحركاتهم وتحركات ذويهم.


  • وباسم الوطنية المحتكرة لصالح حزب الدولة تنـشّط دولة الحزب، الدعاية الإعلامية المغرضة: ليتم دفع البقية الباقية من معارضيها إلى اللجوء خارج البلاد والعيش القسري بعيداً عن نبض الوطن، ثم يجري تخوينهم وتجريدهم من وطنيتهم.

إن الخصوصية الجامعة التي تجعل مسألة السجن السياسي القضية الأم للقضايا التي تشغل التونسيين، هي أن مؤسسة السجن بما هي مؤسسة عقابية لا تستهدف بالعقاب السجين الفرد بحد ذاته فقط ولا فاعل الجرم بصفته البشرية وحسب وإنما في واقع الأمر تجري معاقبة ذاك السياسي بما هو: هوية عاقلة وكيان مجتمعي وفعل للحق.فتجريم السياسي منهج إقصائي إن كان يجد في السجن أكثر الصيغ الحسية بداءة، فإن إرادة الاستبداد قادرة على أن تجعل له أنظمة بالغة التجريد و المرونة، تشارك الفرد والجماعة معاشرتهما بإكراهات ناعمة ،لاتلبث الطباع البشرية أن تتطبع عليها بعد التبلد.وهكذا حين تصبح الصحف التونسية جميعها نسخة واحدة والنشرة الإخبارية نصوص مكرورة وبطاقة الإنخرط بالتجمع الدستوري الديمقراطي بطاقة ائتمان وأمان لمن لاذ بنفسه من التونسيين عن منازلة الحاكم، وحين ينتهي بهم قلق الوجود إلى الوقوف عند إستهلاك الجنس و المخدرات وقتل الوقت قتلاً متعمداً وحين ترتد أمواج الخيبة على جيل تربى على خرافة التغيير فلا يُـفلت هجرته خفر السواحل ولا تُسعفه قوارب الموت وحين تشـدد الحراسة على الناس في الحي والمؤسسة ودور العبادة ومقرات الجمعيات ومقرات الأحزاب والمعاهد والجامعات وتكثّـف المراقبة على المقابلات الاجتماعية والعائلية و الاتصالات الهاتفية والفضاءات الافتراضية.فقد صار السجن السياسي حينها نظاماً للمنع والتحجير والإقصاء مُعمماً على جميع منا شط الحياة.

وحين نعقد مقارنة بين فضاءين:الأول فضاء السجن والثاني فضاء المجتمع. فإن الملاحظات العامة التالية مع كونها متعجلة تظل كافية لترسم ملامح النظام السجني الذي قامت الأجهزة الأمنية لنظام ابن علي بتعميمه على مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية جميعها:


  • فكما يتوزع المقيمون في السجون بين سجناء الانتماء(المنتمون لحركة النهضة الإسلامية) والمشار دوماً إلى معاملاتهم وملفاتهم بحرفي:( ص.خ )أي صبغة خاصة و سجناء الحق العام، فإن الحياة السياسية خارجها قد فرزت التونسيين إلى فئة الإنتماء لشريحة المضطهدين من عموم التونسيين و المناضلين السياسين وعوائلهم بما هم في نظر أجهزة الرقابة الأمنية مواطنون من ذوي الصبغة الخاصة من جهة وبين فئة ثانية من المواطنين ممن لا تزال "عقائد الخبز" تحكم وعيهم وتستسلم حياتهم لزيفها.


  • وكما يعاني سجناء الصبغة الخاصة في داخل السجون من الإهمال الصحي والعقاب بالعُـزلة الانفرادية أو المنع من الزيارة أو الترحيل إلى سجون يشق على أهاليهم زيارتهم بانتظام،و يمنع على سجناء الحق العام(إلى حدود 1998) الاتصال أوالإختلاط بهم وكان وجود بعض سجناء الصبغة الخاصة في الغرفة الواحدة تثير في نفوس المائات من سجناء الحق العام قلقاً بسبب تأثر إقامتهم بتضيقات نظام الصبغة الخاصة الممارسة على الإسلاميين وفيما كان الأمر بالسجون على ذلك النحو، كانت الحياة السياسية في الخارج قد جعلت من مناضلي الحقل السياسي والحقوقي الواقعين تحت المراقبة الدائمة والمشددة ، يواجهون نفور بعض أصدقائهم خوفا من بطش الحاكم، ويتعرض المواطن للمساءلة الأمنية لوعُرف بإختلاطه بأحد المناضلين وسيشعـر صاحب مقهى أو صاحب محل عمومي للأنترنات بضيق وحرج المراقبة الأمنية لو دخل عليه أحد المناضلين العاملين .وقد جعل الإصرار من أولئك المناضلين على اللإلتزم بالقضايا الوطنية والحقوقية العادلة، وجرأة مواجهتهم لحواجز المراقبة، مثير للغرابة في عيون عموم مواطنيهم.


  • وكما يُحرم السجناء المعرفة فلا يُسمح للراغبين منهم في متابعة دراستهم من داخل السجن، و لاتسمح لهم نيل المعرفة إلا من بعض الكتب الهزيلة مما أبقت إدارات السجون عليها في مكتباتها العامة من باب لزوم ما لايلزم ولا تسمح لهم بالإطلاع على الأحداث الجارية بالعالم إلا من خلال قناة سبعة التونسية وحدها أومن خلال الصحف التونسية التي لا يسمح بدخولها إلا بعدما ينقضي وقتها ليحوّل مقص الرقابة بعض مقالاتها إلى نوافذ فارغة يتسلى السجين بمراقبة زملاءه من خلالها.وكما يحدث هذا للسجين في الداخل فإن نظام السجن المعمم يمنع عن المغضوب عليهم أو المسرحين من فئة الإنتماء في الخارج حق العودة إلى الجامعة ومتابعة دراستهم، كما يمنع عرض عناوين مخصوصة من الكتاب السياسي والديني في المكتبات أومن تداول صحف عربية أو عالمية بعينها بين القراء.


  • وكما لا يسمح للسجناء باستقبال عائلاتهم وتفقد أحوالهم والإستماع إلى أخبارهم الجديدة إلا تحت الحراسة و من خلال حواجز غرف الإستقبال- Parloir Le- فإن أجهزة المراقبة التي طورتها الدولة الأمنية قد عممت نظام–Le Parloir - في إتصالات المواطنيين المباشرة بعضهم ببعض وفي إتصالاتهم اللاسلكية والإلكترونية فراقبت هواتف بعض المواطنين وقطعت خطوط أخرين، مخافة أن يلجوا مواقع إلكترونية محظورة أو يخترقوا الحجب المضروبة عليها، كما مـنعت على أشخاص بعينهم أيضاً دخول قاعات الأنترنات العمومية أو يُحذر صاحب قاعة الأنترنات إن مكّـن شخص بعينه من الإبحار في الشبكة.


والواقع أن الاسترسال في عرض أوجه التماثل الكثيرة بين السجن بوصفه مؤسسة عقابية للمحكوم عليهم والسجن بوصفه نظام عقابي مسلط على أفراد المجتمع، تكشف عن طبيعة الخلفية الأمنية والإستئصالية المعادية للإنسان التي تميّز هذه الدولة، فهي حين تحرم الإسلاميين من العمل السياسي تفعل الأمر نفسه مع باقي الأحزاب الوطنية المعارضة و حين تقمع الإسلاميين لاتتأخر لتفعل الشيء ذاته مع باقي الأطياف السياسية والمجتمعية في تونس وحين تحرم الإسلاميين الذين زجت بهم في السجون من نعت السجناء السياسيين لا تلبث أن تفعل الأمر نفسه حين تلقي بغير الإسلاميين في السجن بدعاوى اقتراف جرائم الحق العام.


محنة سجناء السياسة، محنة المجتمع التونسي

استثمرت جميع وسائل الدعاية الحزبية والحكومية في نظام ابن علي ما كان يحدث في الجزائر من اقتتال داخلي، لتضع خصومها من الإسلاميين هدفاً لسهامها، ولتصنع فراغاً حول حركة النهضة الإسلامية و تقذف في نفوس التونسيين الخوف والحذر من احتمال صعودها في انتخابات 1989، وقد سهل ذلك لاحقاً تمرير كل الاتهامات المعدة في دوائر وزارة الداخلية بغرض توفير الحجة على تورط أبنائها في اجتياز المحاذير الأمنية.وبقدر ما كان ذلك يوفر الأساس الموضوعي لشن أكبر عملية أمنية عرفتها تونس منذ 1956. كانت تلك العملية التي تجري تحت عناوين حماية البلاد من التطرف الديني والإرهاب الإسلامي، قد ساعدت الحكم على نقل نزاعه ضد الحركة الإسلامية من الساحة السياسية إلى الساحة الأمنية والأخلاقية ووفرت لخطابه حجة استئصالها وحرمان أبنائها من صفة السجناء السياسيين.

لقد ظلت مسألة السجناء السياسيين إلى غاية النصف الأول من التسعينات على الأقل، قضية يجري التعامل معها من قبل الأطياف السياسية المعارضة على أنها قضية خاصة بحركة النهضة الإسلامية حصراً، فالاعتراض على قمع الحركة وسجن أبنائها لم يتجاوز بادئ الأمر، الشجب البياني أو الدعم والمساندة بمبادرات فردية.

إن المعالجة الأمنية التي تعاطى بها نظام ابن علي مع خصومه السياسيين ومناضلي المجتمع المدني عموماً كشفت ما عليه نظامه من إفلاس على المستوى السياسي وماحمله تغييره من مشاريع إمبريالية متصهينة لن يجد لها في الساحة السياسية، من بين المعارضة الشريفة، من يشاركه في إنجازها، وعليه فإن تنفيذ مشاريعه تلك، تستلزم تجميد المعارضة الجادة بعد استئصال حركة النهضة الإسلامية رأس حربتها، ثم الإبقاء على حالة الطورىء غير المعلنة، إذ لن يستقيم له الأمر لو جرت منافسة سياسية مع أي من المعارضة الوطنية الشريفة،إن تقيد هو بقواعدها.وكل جهوده لحمل المجتمع على رأيه وخياراته كانت تمر عبر المعالجة الأمنية حصراً، أكان الأمر مع الإسلاميين أو اليساريين أو الليبراليين أوالحقوقيين، وهكذا فأمام العجز و الحرج من الدخول في سجال سياسي مع المعارضة وأمام شرعية العنف الذي تمنحه إياها مؤسسة الدولة وبالاستفادة من القدرات الأمنية التي طوَر وسائلها، كان نظام ابن علي يجد كل الراحـة في رمي معارضيه في السجون بعد تجريمهم ثم تصنيفهم ضمن سجناء الحق العام. ولقد كان حرص نظام السابع من نوفمبر على نقل صراعه ضد خصومه السياسيين من دائرة السياسة إلى دائرة الأمن و الأخلاق ما من شأنه، بزعمه، أن يُـفقد خصومه هوياتهم السياسية ورأسمالهم الرمزي ويُعفي في نهاية المطاف الأنتليجنسيا الانتهازية المتحالفة معه من مناظرات عجزت، مع تراكم تناقضاته وفشل برامجه، على الدفاع عن سلامة نهجه أو إقامة الحجة على وطنية خياراته، وظلت، في جميع المناسبات، تتحصن فقط خلف الإدانات الأخلاقية و الخطوط الحُمر الأمنية، دون أن تُعْـلي للحجاج سـقفاً سياسياً متناسباً مع شعارات النظام الموصوفة بالتقدمية.

وبمناسبة الهجمة على الإسلاميين والإلقاء بهم في السجون كانت الأجهزة الأمنية قد أجرت تعميم تلك الحالة على جميع مناشط الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وأدى قـرض نظام ابن علي لمكونات المجتمع المدني والسياسي بمقارضه الأمنية وتفخيخه من الداخل بحلفائه من الانتهازيين حداً أفقد المجتمع مناعته وخياراته الحرة، وسهل إنجاح برامج المسخ والتغيير التي جاء السابع من نوفمبر يتأبطها. و فيما كانت كل البرامج السياسية والثقافية والاجتماعية تعمل على اختطاف الجيل الجديد من شباب البلاد وتحويل وجهته بعيداً عن التطور التراكمي للوعي السياسي والمدني للشعب التونسي وعن التجربة التاريخية لنضالاته الميدانية و السياسية والمجتمعية كانت تلك الحالة الأمنية المُعـممة قد أنجزت فعلا قطيعة بين جيلين تونسيين ومنعت الرقابة بآلياتها المنهجية فرص التواصل الاجتماعي بين الجيلين وصنعت فراغاً حول الجيل السابق من مناضلي المجتمع المدني وعـزلته. وعمّمت العزلة الانفرادية على الجمعيات الحقوقية والأحزاب الوطنية والشخصيات المناضلة وجرى التعامل معها بصبغة خاصة(ص.خ) كما يجري الأمر تماماً في السجون مع الإسلاميين.

لقد أكدت المنظمات الحقوقية والإنسانية المحلية والدولية أن المحاكمات التي تعرض لها الإسلاميون طوال الخمسة عشر عاماً، كانت تفتقر إلى أدنى شروط العدالة.وأن عدد الوفيات في صفوف الإسلاميين خلال الخمسة عشر عاماً، جاوز الأربعين حالة، جراء التعذيب في مراكز الأمن أو نتيجة الإهمال الصحي في السجون أوالهرسلة المتواصلة للمسرحين.وأن الأحكام المؤبدة تشمل 59حالة منهم وأن بعضهم قضى ما يزيد عن الثلاثة عشر عاما متواصلة في العزلة السجنية. وأن المراقبة الأمنية (المسمات إدارية) بعد قضاء السجناء محكوميتهم، تضعهم مجدداً على ذمة وزارة الداخلية وتعـرّضهم للإهانات القاتلة ما دفع اثنين من الإسلاميين المشهود لهم بالتدين وحسن الخلق إلى الانتحار.وحين يحاكم الإسلاميون من ثلاثة إلى ست مرات على التهمة الواحة لضمان أقصي الأحكام،وحين تُـكره زوجاتهم على تطليق أزوجهن السجناء..... . فإن صورة الوضع لمحاكمات الإسلاميين وما استتبعته من انتهاكات وما خلفته من أثار مادية ونفسية على عائلات السجناء وأبنائهم وما كان للهجمة الأمنية من أثار بالغة الخطورة على مائات الألاف من التونسيين ممن لهم علاقة قرابة أو صداقة أو علاقة جوار بالإسلاميين المحاكمين أو ممن كان التدين ظاهر سلوكهم، وماكان لكل ذلك من نتائج على مصير الحياة السياسية لاحقاً، ستجعل من محنة الإسلاميين محطة للمراجعة السياسية لماآل إليه المجتمع التونسي من سقوط متسارع بانخراطه الإرادي أو القسري في اللـعبة الأمنية و لما آل إليه الأمر أيضاً من خنق لمؤسسات المجتمع المدني العريقة ومحاولة متعمدة لتدميرها.وكلما كانت الأسئلة البسيطة بمناسبة تلك المحنة تتسع لتخاطب الضمير كانت الأسئلة الإشكالية تتوالد على وقع الحصار الأمني الذي انغلقت دائرته حول الجمعيات والأحزاب والنقابات القطاعية والشخصيات الاعتبارية والعامة من الناس وتحفر عميقاً وعي جديداً بالمحنة .وبدأت أصوات الرفض تتعالى: مع سهام بن سدرين و منصف المرزوقي وبدأ نظام إبن علي يفقد شيئاً فشيئاً حلفاءه، فيما بدأ المجتمع المدني يستعيد مع الضعف، عافيته.

والتحركات التضامنية للمجتمع المدني لاحقاً، التي التفت في لجان مساندة حول محمد مواعدة وحمة الهمامي وتوفيق بن بريك وراضية النصراوي وعلي الرواحي... ورسالة حق عند سلطان جائر للقاضي مختار اليحياوي وانتصارات المغفور له زهير اليحياوي في غزواته للساحات الافتراضية، و هبّة محمد عبو نصرة للسجناء و استنكارا لتعذيبهم ثم تلاها إضراب قطاع المحاماة. وقطاع التعليم.. جميعها كانت مناسبات وطنية راكمت ضربا جديدا من النضال المشترك وأسست لوعي جمعي في التعاطي مع الشؤون الوطنية الراهنة منذ 18أكتوبر2005 على قاعدة النضال من أجل الحقوق والحريات. ولقد أسهمت مراكمة النضال على مدى السنين الخمس الماضية إلى إخراج ملف السجين السياسي من مشاغل عائلته السياسية حصراً ليصبح هماً وطنياً مشتركاً بين جميع الأحزاب والجمعيات الوطنية المناضلة وعنواناً جامعاً للقمع السياسي وإنتهاك الحقوق وعلامة فارقة لمحنة المجتمع التونسي كله.


الجزء الثاني

إن الخصوصية الجامعة التي تجعل مسألة السجـن السياسي القضية الأم للقضايا التي تشغل الأحرار من التونسيين، هي كون مؤسسة السجن بما هي مؤسسة عقابية لا تستهدف بالعقاب السجين الفرد بحد ذاته فقط ولا فاعل الجرم بصفته البشرية وحسب وإنما في واقع الأمر تجري معاقبة ذاك السياسي بما هو: هوية عاقلة وكيان مجتمعي وفعل للحق.فتجريم السياسي منهج يعمل على بتر السلوك وطمس الوعي واحتكار دوائر الفعل السياسي وهو أيضا يقنن أنظمة السجن العقابي ويعممها.وإذا كان السجن أكثر الصيغ الحسية بداءة للعقاب المؤسسي، فإن إرادة الاستبداد قادرة على أن تجعل له أنظمة بالغة التجريد و المرونة، تشارك الفرد والجماعة معاشهما بإكراهات ناعمة، لاتلبث الطباع البشرية أن تتطبع عليها بعد التبلد.

إن الذين لا يزل نفاقهم السياسي يهيم بهم فيدَعون أن محنة الإسلاميين في السجون هي محنة إنسانية وليست محنة سياسية هم في واقع الأمر أحد صنفين: إما أنهم حلفاء إسترتجيون لنظام إبن علي وحماة لمشاريعه الإمبريالية المتصهينة أو أنهم حلفاء موضوعيون أدى عنهم نظام إبن علي بقمعه الإسلاميين، ما لن يترددوا في أدائه لو أن الأمر بيدهم. فحين بتحذلقون في إجتهادهم بالتمييز بين الحقوق السياسية للإسلاميين وحقوقهم الإنسانيةوحين يعتبرون السجن السياسي منحة لايستأهل الإسلاميون التمتع بها، إما لأنهم أجرموا كما يقول الحلفاء الإستراتيجيون أولأنهم ظلاميون على حد وصف الحلفاء الموضوعيون، إنما يعكس عمق الفصام الذي تعانيه هذه الذهنية السياسية المهترأة والمشبعة بلوثة الاستبداد التاريخي. ففي الوقت الذي تجتهد هذه الذهنية بإظهار رقتها وإنسانيتها حين تعترف بالوجه الإنساني لمحنة الإسلاميين دون الوجه السياسي، فإنها تكون قد أسقطت التاريخ من قراءتها وأفرغت نزاع الإسلاميين ضد مشاريع الدولة الحديثة في العهدين البائد واللاحق، من كل المضامين الإشكالية في السياسة والفكر والتاريخ, وهي تقرأ بذلك أيضاً الفعل السياسي بصورة مفارقة للإنساني من جهة وتسقط من لوازم الفعل الإنساني كل مدلولاته السياسية، وتنزع عن مؤسسة السجن ما تحمله من إمتيازات سياسية للدولة في مناوراتها ضد المجتمع المدني.وتطمس بشفقتها الزائفة تاريخا عريقا للإسلام السياسي في تونس لم تكن حركة النهضة الإسلامية إلا إحدى روافدها الأساسية المعاصرة.إن حلفاء نظام إبن علي الإستراتيجيين و حلفائه الموضوعيين حين يجعلون من السجن السياسي منحة، يجب عدم مكافأة الإسلاميين بها، ويكتفون بالشفقة الزائفة على إنسانيتهم المهدورة، يدركون مع ذلك أن السنين الخمسة عشر التي اُهدرت فيها إنسانية الإسلاميين في السجون وخارجها، كان نظام إبن علي، على مرأى منهم ومسمع، قد أهدر كرامة التونسيين جميعهم وأنتهك حقوقهم الإنسانية وصحر حياتهم السياسية. وفي الوقت الذي نشطت أجهزته من أجل تجفيف ينابيع الإسلاميين ومدارسهم الفكرية والشرعية كانت تلك الأجهزة ذاتها، بعد أن اطمأنت إلى ما بدا لها من نجاح في مهمتها، تجفف الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعيةو السياسية، وتلغي مكاسب عريقة للمجتمع التونسي نحت بأظافره، طوال ما يزيد عن القرن، تاريخها.

كما أن حلفاء ابن علي هؤلاء، لا محالة يدركون، أن عشرات الألاف من السجناء الإسلاميين (نحو 25ألف إسلامي أدخل السجن بين1990و2005) جاؤوا من خلفية ثقافية وتاريخية لا تزال برغم كل شيئ تنبض بالحياة.وأنهم بكل حال يمثلون خياراً منافساً يجد دوماً في الاستجابة الجماهيرية لهم ما يبرر وجودهم حتى ولو ظلوا لسنين رهائن السجون المعتمة. وأياً كان رأي خصوم الإسلاميين في مشاريعهم فإنهم، قبل إغلاق جامع الزيتونة وبعده، كانوا لايترددون في مواجهة مشاريع التغريب و في دفع التضحيات مقابل خيارات، لهم في أدبياتهم ما يأصلها و في وطنيتهم ما يشهد لها.وأن السجن السياسي ليس بدعة في تاريخهم ، ليمنحهم المخلفون شرفه، وأن تجربتهم التاريخية كانت ترفع ،دوماً بتضحياتهم، من سقف أمالهم وأمال شركائهم السياسيين وتصنع بمحنتهم جذوة نضال لأجيال لاحقة.

إن بعض خصوم إبن علي ممن يضعهم عداءُهم “الراديكالي” للإسلاميين في خانة الحلفاء الموضوعين مع النظام وأجهزته الأمنية حين يبعث فيهم، هدر إنسانية الإسلاميين في السجون، شعور بالأسف وحين هم، من جهة ثانية، يستكثرون على الإسلاميين حقهم في السجن السياسي، إنما هم في واقع الأمر يجعلون من آلام الإسلاميين ومحنتهم مناسبة لمقياضتها بحقهم في السياسة و هو نهج برغم الشفقة الزائفة، يؤسس، تماماً كما يفعل نظام إبن علي، لمقدمات إقصائهم من الساحة السياسية مستقبلاً.

وحري بهذا البعض ممن لا يجد غضاضة في إقصاء الإسلاميين من الحياة السياسية، أن يذ كر أن سجل الإسلاميين على إمتداد الخمسين سنة الماضية من التنكيل لم يقطع أوصالهم ولم ينزع شأفتهم وإنما إستدعى استئصالهم شن أكبر عملية أمنية شهدتها البلاد منذ خمسة عقود ضد المجتمع بأفراده وهيئاته ومؤسساته. وحري أيضا بمن، يخرج اليوم عن هيئة 18 اكتوبر للحقوق والحريات، بتحالفات موازية تشترط إقصاء الإسلاميين عن المشاركة أن يتأكد إن كان لمشروع دولة استئصالية تأتي غداً يقودها مثل هذا التحالف أن يمنح التونسيين من حقوقهم أفضل مما منحته دولة إبن علي للإسلاميين؟

وإذا كان لابد لمن رام إعادة النظر في دولة إبن علي ووْصفها بما يتناسب ومناهجها الأمنية مقارنة بماضي التونسيين وكان يعنيه أيضاً هذه الأيام الاحتفاء بخمسينية الاستقلال عن فرنسا، أن يذكر أن أحداً من التونسيين وعلى إمتداد الحقبة الإستعمارية، لم يقضي بالسجن مدة متواصلة بلغت الخمسة عشر عاماً مثلما قضاها الإسلاميون ولا يزالون يقضونها في سجون دولة ابن علي. وأن الإستعمار الفرنسي الذي كان قد حاكم التونسيين بتهم الخيانة والنيل من سلامة أمنها الداخلي والخارجي، وتخريب منشأتها، وتنظيم المقاومة المسلحة ضدها، كان يسارع أيضاً بعد بضع سنين فقط من صدور أحكام ثقيلة في حقهم. إلى إصدار قرارات للعفو لفائدتهم.

إن إصرار النظام على وصف السجناء الإسلاميين بسجناء الحق العام، وهم الذين كانوا أقوى الأطراف المنافسة له في إنتخابات89 يؤكد كما يفعل دائما، افتقاره إلى أي أفق سياسي مطلوب لبلد كان من أهم ميزاته التاريخية بين دول العالم العربي وإفريقيا، مبادراته الإبداعيه في السياسة المدنية( من نظرية العمران البشري لإبن خلدون إلى عهد الأمان مع نهاية القرن التاسع عشر إلى بعث أول حزب سياسي في العالم العربي1920 فتأسيس أول حركة نقابية 1924 إلى بعث سنة 1977لأول رابطة للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم العربي)
وما يزيد إلى حاجة النظام في التملص من ملف الانتهاكات ذات الطبيعة الحقوقية، بالنظر إلى تمسكه بعدم الاعتراف بوجود سجناء سياسيين في تونس تلك الضرورة الملحة في إبقاء ملفات خصومه من سجناء الرأي بعيداً عن الذاكرة السياسية الجمعية و بعيداً عن المراجعة والمقارنة النظرية بين خياراته وخيارات سياسية أخرى مقترحة وبعيدا عن استثمار خصومه للرمزية السياسية لمحنة السجن، وإخلاءاً للساحة السياسية الآن ومن بعده من بدائل وطنية، وترسيخاً لثقافة تجريم السياسي، وتكريساً لمنهج الإقصاء والاستئصال، واستدامة لحالة العقم السياسي الذي سقطت البلاد في دركاته منذ ثمانية عشر عاماً.

والدولة الأمنية وحدها حين ترهن المجتمع بمكوناته الحية المدنية والسياسية بين مؤسسة سجنية عقابية تنزع نعت السياسة عن السجين وبين نظام سجني عقابي يسحب عن المعارضة الجادة والنشطة حقها السياسي وتصبغ على التعامل معهم جميعاً صبغة خاصة. ووحدها هذه الدولة الأمنية بإقصاءاتها تلك لمواطنيها وهيئات مجتمعها و بتناقضات أجهزتها السياسية وأجهزتها الأمنية ستتطور إلى دولة أوليغارشية بيد عصابات ستعيد مراكمة دورة المال العام لتحول وجهته إلى خزائنها الخاصة.

ونظام السابع من نوفمبر الذي إنتهز انشغال العالم ووسائل إعلامه بزلزال حرب الخليج الأولى ليجهز على الحركة الإسلامية ويتخذ من حالة الاقتتال الداخلي في الجزائر حجة له لاستئصالها، فـقدَ اليوم كل معقولياته الدعائية التي بررت نهجه الأمني السابق في معالجته ملف الإسلاميين.فابن علي الذي ظهر في عيون التونسيين بصورة البطل القومي عند خروجه عن الموقف العربي بإزاء قرار التدخل العسكري في العراق في قمة مصر/1990، يجد اليوم نفسه في خدمة هذا التدخل العسكري ذاته من موقع" الجبهة التونسية لمكافحة الإرهاب" وحماية "الأمريكان" يحاصر ويعتقل بين سنتي2004و2005 شباباً تنادى لنصرة المقاومة العراقية ويزج بعد التعذيب ما يزيد عن150 منهم في السجون.

والقادة السياسيون الجزائرون الذين نجحوا في إخراج البلاد من محنة إقتتال سقط ضحيتها 150 الف جزائري، يثبتون أن الإرادة الوطنية الصادقة وحدها يمكن أن تنجز، ولوبحسابات محدودة الإنصاف، ميثاقاً وطنياً للسلم والمصالحة يستجيب إليه جميع الأطراف (الإفراج عن 2629 من الإسلاميين الجزائريين بموجب اتفاق المصالحة الوطنية) إلا أن هذا النجاح الجزائري في إنهاء أزمة البلاد مع المجتمع ومع الإسلاميين على وجه الخصوص، لايمكن لدولة ابن علي الأمنية، بأنظمتها المغلقة وميزاتها التسلطية، أن تستوعبه. فمقارنة الحالة الجزائرية مع ما قيل من قيام الحجة في تونس على تجاوز الإسلاميين للمحظورات الأمنية، وعلى الرغم من أننا لم نرى حجة أونسمع بينة على أن عود ثقاب واحد أشغله أبناء حركة النهضة الإسلامية. فإنه بعد خمسة عشر عاما من التنكيل بالإسلاميين و التدمير المنظم لمكاسب التونسيين، لاتزال وسائل دعاية ابن علي، مع إنسداد كل أفق سياسي للإصلاح، تعده بطلا وطنياً فريداً.


أحلام الإنفراج والخيارات الأمنية

يبدو أن الإفراج علىما يزيد عن السبعين من السجناء الإسلاميين في توقيت لم يعتده المنشغلون بالشأن السياسي التونسي، كان له من الوقع في نفوسهم ما دفع العديد منهم إلى التساؤل حول الأسباب الحقيقية وراء هذا الإجراء المفاجىء.وأكثر التفسيرات تداولاً، ردت الأمر إلى زيارة دونالد رامسفيلت ورغبة الولايات المتحدة في أن تردف الدولة التونسية إلى إصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية، إصلاحات سياسية.

والتفسير الثاني الذي تداوله المنشغلون بالشأن التونسي هو التقرير الذي رفعته لجنة الصليب الأحمر الدولي إلى الرئاسة والذي تعرض لوضع المحكومين من السجناء الإسلاميين.لكن ما أثار إستغارب الكثيرين أيضاً هو أن توقيت الإفراج كان يبعد بنحو خمسة وعشرون يوماً من تاريخ عيد الإستقلال، وهو ماجعل منه،برأيهم، حدث بدون مناسبة، بعكس ما كان يحلو لبن علي أن يفعل.غير أن الحدث من جهة أخرى دغدغ في نفوس البعض أمالاً صادقة في أن يروا في الإفراج عن السجناء من الإسلاميين، مؤشرات على الإنفراج السياسي. ومع أن كل تلك التفسيرات تظل إجتهادات مشروعة لفهم الواقع التونسي واستشراف مستقبله، إلا أنها لن تكون مقبولة إلا في حدود الاسترشاد بها فقط لما يمكن أن يرشح عن هذا الإفراج من وضع جديد بالبلاد، وما دامت لم تتجاوز هذه الاستنتاجات المجال التداولي للحدث السياسي ومادامت الدولة الأمنية وحدها، والحالة تلك، قادرة على إعطائه ما يحمل من مدلولات.

ومع أن الرئاسة تلقت فعلاً تقرير لجنة الصليب الأحمر الدولي الذي أعدته بناءاً على استجوابات لجميع سجناء الإسلاميين خصوصاً من أبناء حركة النهضة الإسلامية، خلال شهر جويلية من سنة2005، و استغرقت خلالها المقابلات مع كل واحد من السجناء بين الساعة ونحوها إلى الساعتين، فإننا نستبعد أن يكون للإفراج الحاصل في 25فيفري 2006 أثر ضاغط أدى إلى اتخاذ مثل هذا القرار وذلك لأن الإفراج كان جزئياً ولم يكن قد شمل كل المساجين ممن يعرفون بإلإنتماء إلى حركة النهضة الإسلامية، ناهيك عن كونه كان يتسم إلى حد كبير بالعشوائية ودون التقيد بأية معايير خاصة: كالمدة المتبقية من محكومية السجين أو معايير متعلقة بسوء سلوك السجين أوحسنه أو بتصنيف السجين في القضية المتهم بها من حيث أهميته الفعلية مقارنة بدور رفاقه فيها أو معايير متعلقة بالحالة الصحية التي عليها السجين.

  • فمن بين المساجين الإسلاميين من كان محكوماً بما يزيد عن العشرين سنة جرى تسريحه بينما لم يشمل هذا العفو بعض من لم يبق من مدة محكوميته إلا سنة أو سنتين.


  • كما أفرج عمن أشتهر لدى إدارات السجون بسلوكه المشاكس وتحريضه السجناء على الإضراب وعوقب لمرات بالعزلة، فيما المعروفون بحسن سلوكه من السجناء لا يزال بعضهم يقضون باقي محكوميتهم.


  • كما أنه من بين بعض المجموعات من السجناء المحكومون في ذات القضية تم تسريح المتهم الرئيسي في المجموعة وترك رفاقه الذين هم أطراف ثانويون فيها.


  • وفيما يوصف هذا الإفرج عن السجناء الإسلاميين بالعفو الرئاسي، لايزال عدد منهم ممن أدركت حالته الصحية حداً بالغ السوء، ولم يبقى من محكوميته إلا سنة واحدة، يرقد اللآن في المستشفى تحت الحراسة الأمنية دون أن يسعفه هذا العفو، في الوقت الذي سرح محكومون عنهم بمايزيد عن العشرين عاماً.

هذه الملاحظات التي سقناها تؤكد غياب معايير واضحة في عملية الإفراج حيث لابد أن تكون لجنة الصليب الأحمر الدولية قد نصحت بها إن لم تكن قد نصحت بإطلاق سراح الجميع.وحيث أن شيئاً من هذا لم يراع مع تدخل المنظمة فإن اعتقادنا يميل إلى التقليل من الأهمية المباشرة لهذا التدخل.

أما زيارة دونا لد رمسفيلت وما يعتقده بعضهم في أنها كانت وراء قرار الإفراج، فهو أمر لا نسبعده بكل حال وإن كنا لانر له في القرار أثر مباشر فمهمة رمسفيلت تأتي في سياق تترتيب النفوذ الجيواسترتيجي للولايات المتحدة الأمريكية على دول شمال إفريقيا ودعم خطط التعاون في نطاق الحملة الدولية لمكافحة ما يسمى بالإرهاب وأساساً من أجل البحث في سبل التعاون العسكري وإرساء قواعد عسكرية أمريكية في دول الشمال الإفريقي.والإشارة التي جاءت على لسان الوزير الأمريكي، بضرورة أن تجري تونس إصلاحات سياسية، إذا فهمت في سياق الإشادة بالنجاحات التونسية الاقتصادية والاجتماعية.و ما تعطيه تلك التصريحات من انطباعات عما تحمله مشاريع الإصلاح من حوافز وتطمينات فيما لوتمت تلك الإصلاحات بمواصفاتها الأمريكية وما يعنيه هذا الغزل السياسي من رضا، فإن معني الإصلاح السياسي لن يكون له أي مضمون خارج سياق الطبيعة الجوهرية للدولة الأمنية.

والواقع أن الإفراجات عن السجناء الإسلاميين عرفت في تونس بموسميتها وارتباطها بمناسبات رسمية وهي منذ بضع سنين تجري على ذاك النحو بصورة شبه منتظمة و تحقق لنظام ابن علي غرضها السياسي والأمني بصورة لا تستدعي تدخلا من أحد.و إن كان من تدخل من جهة ما، فإن تسريح السجناء سيجري على عادته وضمن الجدولة الكمية والزمنية المقررة وسيحقق ابن علي رضا وقبولاً بما سيُبديه لصالح الجهة المتدخلة من مرونة وتعقل مصطنعتين، وهو في الأخير لن يفعل حقيقة غير الذي يريد. ونظام ابن علي الذي ارتبطت طبيعته الأمنية و مصالحه الاقتصادية بمصالح الإمبريالية المتصهينة، لا تلوي ذراعه تصريحات قلقة على حالة حقوق الإنسان في تونس وهو أبعد من أن تنغص عليه تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية زهوه بما تدعيه له الآلة الدعائية من معجزات اقتصادية، ما دام قادر على أن يطعن في تلك التقارير و يثبت لحلفائه في الغرب إستقرار بلاده السياسي وتمسك التونسيين بقيادته الحكيمة.

غير أن السياق الداخلي للأحداث وحده، كما نعتقد، يمكن أن يسمح لنا برؤية أكثر وضوحاً بخصوص تفسير مدلولات الإفراج عن السجناء السياسيين في مثل هذا التوقيت وأثره على الحياة السياسية في المرحلة القادمة؟


  1. فرفع حركة 18أكتوبر لمطلب إطلاق سراح المساجين السياسيين في السجون التونسية، كان أكثر مطالبها إثارة وأقدرها وقعاً و إقناعاً لدى وفود المنظمات الحقوقية والإنسانية التي حلت بتونس أيام قمة المعلومات لاسيما وأن تلك الوفود تابعت الإضراب عن الطعام الذي شنته رموز حزبية ومجتمعية و زارت أسر عائلات المساجين السياسيين الذين شاركوا هم أيضاً في الإضراب عن الطعام في مرحلته الأخيرة.وهو إلى كل ذلك مطلب يقدم عينة مكثفة ومعبرة على مستوى الإنتهاكات الإنسانية والحقوقية التي يرتكبها الحكم في تونس.

  2. أن النجاح الذي حققته حركة 18 اكتو بر في حشد ها الإعلام العالمي وسحبها الأضواء إليها وحول مطالبها الثلاث وجر المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية خلال المرحلة الثانية لقمة مجتمع المعلومات وما قبلها، لنصرة قضيتها ثم التحركات والاتصالات شبه الدبلوماسية التي أجرتها رموز تلك الحركة في أعقاب القمة وما تحقق لها بنتيجة تلك الإتصالات من اعتراف بهيأتها التمثيلية الاعتبارية، كان قد أفقد نظام إبن علي أمام الجهات الدولية المعتبرة صورة الإجماع الوطني الخادعة التي تحرص آلة الدعاية الإعلامية على ترويجها.


  3. أن التجمع الذي دعت إليه الهيئة الوطنية للحقوق والحريات يوم24فيفري كشف لأول مرة عن وقوع النظام تحت ردة فعل مبادرات المعارضة المدروسة، مما دفعه إلى التسريع بالإعلان عن العفو الرئاسي الذي كانت قوائمه قد أعدت للإعلان عنها في20مارس احتفالا بعيد الاستقلال وعلى عكس الإفراجات السابقة التي يبلغ فيها السجناء بالإفراج فإن المسؤلون من حراس السجن أنفسهم قد بلغهم نبأ الإفراج من نشرة الأخبار الرسمية و هو ما يدلل على أن توقيت الإفراج، وليس قرار الإفراج، كانت الهيئة الوطنية للحقوق والحريات قد حددته. فنظام ابن علي الذ ي يَستعدُ منذ مايقرب عن السنة ليجعل من الاحتفال بخمسينية الاستقلال مناسبة متميزة لعهده المتجدد، صار يتوجس خيفة من أن تفاجأه هيئة18 أكتوبر فتسرق أضواءه وتتغذى وحدها على موائده.

  4. إن برنامج ما وراء الخبر بقناة الجزيرة ليوم 23فيفري الذي تناول حواره خلفية التحرك السياسي للمعارضة التونسية المنضوية تحت الهيئة ثم التغطية الإخبارية في نفس القناة خلال يوم غد كان له في الرأي العام التونسي وقع مؤثر يتجاوز تأثير حدث التجمع نفسه.

  5. أن النهج الذي تسلكه الهيئة الوطنية للحقوق والحريات باتجاه إفتكاك الفضاء العام وتحت المطالب التي ترفعها حصراً، يفسر حالة الإستنفار الهستيري للآلاف من أعوان الأمن في شوارع تونس العاصمة ومداخلها في مواجهة بضع مائات من المناضلين، وحشد مايقرب عن 3000 عون أمن من جميع الفرق_رقم تقديري_ في مساحة لاتزيد عن الكلومتر مربع إنما تضيف إلى قائمة الخطوط الحمر في أنظمة الرقابة السجنية، خطاً جديداً تفسر الحساسية المفرطة لدى النظام من كل تحرك ميداني ولو بدا نخبوياً.

لا يبدو أن صورة الوضع الذي عليه البلاد بعد الإفراج على السجناء الإسلاميينتقدم لنا ما يشير إلى أية رغبة ظاهرةأوخفية في تنقية الأجواء مع المعارضة، فقرار الإفراج هو قرار لايخرج عن المعتاد من سلوك النظام خلال السنوات الخمس الأخيرة فإن تأويل الإفراج على أنه تحول في سياسته تجاه الإسلاميين، يظل تأويل مجانب للصواب لكون ملف المساجين السياسيين- من أبناء النهضة وشبان جرجيس خصوصاً وهم الذين تم إطلاق سراحهم -بات مسكه يزيد في كلفته على النظام. وهو يعبر أيضاً عن فشله في إقناع أصدقائه الأوروبيين وحلفائه الأمريكيين أن ملف حركة النهضة يندرج ضمن مكافحته المبكرة للإرهاب المحلي. ويجد النظام في التخلص منه أمر يساعد على تحسين صورته وإسقاط ورقة ضاغطة تمسك بها المعارضة، ـ ومع أن النظام خفض ثلث المدة المتبقية للسجناء السياسيين ممن لم يشملهم هذا العفو، وهم بضع عشرات )+/-70من أبناءالنهضة المتبقين بحسب السجناء أنفسهم(، فإنه لن يتأخر في الإفراج عنهم في الأيام (20مارس) أو الأشهر ( 25جويلية)القريبة القادمة.

غيرأنمايزيد عن 150 من الشباب رواد المساجد الذين شملتهم الحملة الأمنية منذ أفريل2005، لايزال إبن علي يؤكد بتمسكه بهم رغم ضعف أدلة الإتهامالموجهة إليهم ،إن السياسة ليست طبيعة متأصلة في نظامه وإنما الثابت أن الأمن هو جوهره.ورغم أن الإفراجات الجزئية التي دأب النظام على إعلانها منذ 1999 في كل مناسبة وطنية، لاتقدم أي مؤشر على الإنفراج السياسي، إذ يسارع النظام بعدها دائما إلى التأكيد على التزامه خطاً لايزال ينهجه، فإن بعض المعارضين من الإسلاميين وغير الإسلاميين في كل مناسبة من مثل هذا الإفراج، لحسن نيتهم أو لسوء فهمهم، لايترددون في التعبير عن أحلام الإنفراج التي قد يجود بها نظام السابع من نوفمبر فجأة على الحياة السياسية في تونس.والواقع أن إطلاق سراح المساجين السياسيين على دفعات وفي مناسبات إما وطنية أو حزبية، ورغما عن كونه يجري، كما اعتدنا أن نرى، في سياق إنعاش الطابع الاحتفالي لمناسبات، فقدت في عيون التونسيين مبرراتها، فإنها بدرجة أولى، تندرج في إطار إعادة الدمج الأمني في صيغته الاجتماعية:الاطمئنان إلى أن السجين السياسي المسرح لم يعد يشتغل بالسياسة، يمارس شغلاً يقطع أنفاسه طوال النهار، مشغول بأهله وأبنائه الذين كبروا في غيابه، مشغول بالعناية بالأثار الصحية المزمنة التي سكنت لحمه وعظمه طوال سنين السجن...ولأن هذا الدمج هو دمج أمني صرف فسيستمر العقاب بعد السجن بحرمانه من العودة إلى الجامعة إن كان طالباً وإلى عمله إن كان موظفاً أو عاملاً... فهذا الإندماج الاجتماعي لن يسهل عليه العودة إلى مؤسسته أوجامعته ولن يعوضه مادياً ولن يمكنه من بطاقة معالجة مجانية ولن يرد عليه بطاقة هويته الوطنية إن إنتزعت منه ولا جواز سفره أبداً لو توفر له عرض عمل في خارج البلاد، أوتمنى على الله أن لا ينهيه الوهن ولا تقضي عليه الأمرض الخبيثة قبل أن يحج البيت الحرام ويزور القبر الشريف. إن الإفراج على دُفعات عن المساجين السياسيين بصورة دورية وفق مناسبات حزبية أو وطنية، مرتبط بالمراقبة الأمنية وخطة الأجهزة في الإستعاب والتأطير ضمن المنظومة الرقابية بوظائفها العقابية بالبلاد، فعملية الإفراج وبالنظر إلى الأفاق السياسية المسدودة لا يمكن بحال أن تُـقرأ إلا على أنها عملية ترحيل منهجي للسجين السياسي من مؤسسة السجن العقابية إلى نظام السجن العقابي، وهي في المحصلة دورة جديدة لرسكلة المـُسرحين ب
صبغة خاصة من المراقبة و لإعادة إنتاج المجتمع المقهور.....