الأربعاء، مارس 08، 2006

السجن السياسي في تونس. بين الخيارات الأمنية وأحلام الإنفراج

الجزء الأول



بقلم محمد الفاضل


باسم الله الرحمان الرحيم

إن حلفاء نظام ابن علي الإستراتيجيين و حلفائه الموضوعيين حين يجعلون من السجن السياسي منحة يجب عدم مكافأة الإسلاميين بها، ويكتفون بالشفقة الزائفة على إنسانيتهم المهدورة، يدركون مع ذلك أن السنين الخمسة عشر التي اُهدرت فيها إنسانية الإسلاميين في السجون وخارجها كان نظام ابن علي، على مرأى منهم ومسمع، قد أهدر فيها أيضاً كرامة التونسيين جميعهم وإنتهك حقوقهم الإنسانية وصحر حياتهم السياسية.كما أنهم يدركون، لا محالة، أن عشرات الألاف من السجناء الإسلاميين( نحو 25ألف إسلامي أدخل السجن بين 1990 و 2005) جاؤوا من خلفية ثقافية وتاريخية لا تزال برغم كل شيء تنبض بالحياة.. وأياً كان رأي الخصوم، في مشاريع الإسلاميين فإنهم، قبل إغلاق جامع الزيتونة وبعده، كانوا لا يترددون في مواجهة مشاريع التغريب و في دفع التضحيات مقابل خيارات، لهم في أدبياتهم ما يأصلها و في وطنيتهم ما يشهد لها. و بكل حال، لا يزال الإسلاميون يمثلون خياراً منافساً يجد دوماً في الاستجابة الجماهيرية لهم ما يبرر وجودهم حتى ولو ظلوا لسنين، رهائن السجون المعتمة وأن السجن السياسي ليس بدعة في تاريخهم، ليمنحهم المخلفون شرفه، وأن تجربتهم التاريخية كانت بتضحياتهم، ترفع دوماً من سقف أمالهم وآمال شركائهم السياسيين وتصنع بمحنتهم جذوة نضال لأجيال لاحقة.

المقدمة

لا يزال ملف السجناء السياسين في تونس من أكثر الملفات السياسية إثارة في أوساط التونسيين وعموم المنشغلين بشؤونها الداخلية، وعلى الرغم من أن ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى، تحتل الصدارة أيضا في تفكير العاملين في الحقل السياسي التونسي والمهتمين بمجرياته، إلا أن ملف السجناء السياسيين بتونس بخصوصياته الجامعة ظل يستأثر بعلامة فارقة ميزت التعاطي السياسي لنظام السابع من نوفمبر مع مختلف تكوينات الحياة المجتمعية في البلاد منذ أول التسعينات.

ومع الأهمية المصيرية التي تحتلها قضايا أخرى تلامس الحياة النابضة للمجتمع التونسي، ومع أن قضايا حق التعبير والإعلام من جهة وحق التنظم الجمعياتي والحزبي من جهة ثانية، ومع الضرورات الملحة التي تستدعيها الحاجة إلى مجابهة فساد الدولة والقائمين عليها من جهة ثالثة، فإنه ليس من قبيل المفاضلة في شيء و لا من باب المزايدات التي لم تعد تجود لأي أحد بمغنم بعد أن جفت ضراع السياسة طوال السنين العجاف المنقضية، أن يكون تقديرنا لقضية المساجين السياسين بمقام القضية الأم بالنظر إلى غيرها من القضايا التي تشغل الساحة التونسية، فإذا كانت قضايا حق التعبير والتنظم على أهميتها الحيوية أسٌ التنمية السياسية والإجتماعية و الاقتصادية و الإنسانية في تونس كما ينشدها الأحرار، فإن ملف السجناء السياسيين يختزل أكثر تلك القضايا وكل تلك الآمال التي يرفع لواءها مناضلو حركة الإصلاح الديمقراطي.


السجن السياسي و تعميم أنظمته المجتمعية في النسخة التونسية

لقد نجحت دولة السابع من نوفمبر في أن تفسَخ جميع مكونات المجتمع المدني التي راكمتها تجارب التونسيين في علاقاتها الجدالية سواء في مواجهة الاستعمار أوفي مجابهة دولة الاستبداد البورقيبي سابقاً ومع نجاحها ذاك، استطاعت خلال ما يزيد عن العقد ونصف العقد أن تستدرج الجميع للإيقاع بجيل كامل في دوامة جلد الذات السياسية وإكراهها على التنكر لتاريخها في مجابهة الاستبداد ودفعها لنسيان ذاكرتها الوطنية.وهي حين تفعل ذلك فإنها تعمل من أجل أن يتحلل التاريخ السياسي التونسي المعاصر إلى دراما أبدية كتلك التي جاء ت بها مسوخ التغيير منذ1987 بعدما وضعت إبتداءاً من التسعينات كل أنواع المحاذير أمام الكتاب والقصيدة والرواية والصحيفة والصورة والرأي لتنتهي الحياة الفكرية والإبداعية و الصحفية والإعلامية في أيدي المأجورين والمنتفعين يقررون أينما شاءوا خطوطها الحمر، فحين يتحلل التاريخ إذن على ذاك النحو ستكون السجون خيار من أبت نفسه إلا أن يمسك بالقلم ويصدع بالكلمة وينثر الفكرة. وحين يتحلل التاريخ السياسي على ذاك النحو أيضا بحيث يرتد حق التنظم ألجمعياتي والحزبي إلى الحق في بعث أحزاب وجمعيات وهيأت تتناسلها أجهزة الأمن وتصنع رجالها وكوادرها في مراكز التكوين بوزارة الداخلية، وتملأ بالمال العام جيوبهم، فعلى الشريف المناضل من رجال السياسة إن رام خوض غمار العمل النضالي بعيدا عن أخلاق اللزمة السياسية وسلوك المقاولات، أن لا يكون السجن، في الوقت الحاضر على الأقل، أخر خياراته المفتوحة.

إن مسألة السجن السياسي هي أم قضايا الشأن السياسي التونسي في الوقت الراهن لكون السجن لايُعتبر فقط أداة تهديد ضد الفاعلين في المجتمع أفراداً أو جماعات ممن أخذوا على عاتقهم مواجهة فساد الدولة واستبدادها، بل لأن السجن صار عنواناً للإقصاء السياسي والاجتماعي تحت أكثر من مسمى:

  • فبإسم الأحكام القضائية الصادرة عن وزارة العدل: يتم الإقـصاء داخل السجن مع سجناء الحق العام أو في العزلة السجنية.



  • وباسم المراقبة الإدارية والأمنية الصادرة عن وزارتي العدل والداخلية: يتم إقـصاء السجناء المُسرحين أوالمغضوب عليهم بعزلهم عن الناس داخل المجتمع ومنعهم من استعادة وظائفهم السابقة ودفعهم، إن سُمح لهم، إلى العمل في الأشغال المرهقة و لساعات طوال في اليوم من أجل أجور زهيدة، ناهيك عن سحب جوازات السفر وبطاقات الهوية ومراقبة تحركاتهم وتحركات ذويهم.


  • وباسم الوطنية المحتكرة لصالح حزب الدولة تنـشّط دولة الحزب، الدعاية الإعلامية المغرضة: ليتم دفع البقية الباقية من معارضيها إلى اللجوء خارج البلاد والعيش القسري بعيداً عن نبض الوطن، ثم يجري تخوينهم وتجريدهم من وطنيتهم.

إن الخصوصية الجامعة التي تجعل مسألة السجن السياسي القضية الأم للقضايا التي تشغل التونسيين، هي أن مؤسسة السجن بما هي مؤسسة عقابية لا تستهدف بالعقاب السجين الفرد بحد ذاته فقط ولا فاعل الجرم بصفته البشرية وحسب وإنما في واقع الأمر تجري معاقبة ذاك السياسي بما هو: هوية عاقلة وكيان مجتمعي وفعل للحق.فتجريم السياسي منهج إقصائي إن كان يجد في السجن أكثر الصيغ الحسية بداءة، فإن إرادة الاستبداد قادرة على أن تجعل له أنظمة بالغة التجريد و المرونة، تشارك الفرد والجماعة معاشرتهما بإكراهات ناعمة ،لاتلبث الطباع البشرية أن تتطبع عليها بعد التبلد.وهكذا حين تصبح الصحف التونسية جميعها نسخة واحدة والنشرة الإخبارية نصوص مكرورة وبطاقة الإنخرط بالتجمع الدستوري الديمقراطي بطاقة ائتمان وأمان لمن لاذ بنفسه من التونسيين عن منازلة الحاكم، وحين ينتهي بهم قلق الوجود إلى الوقوف عند إستهلاك الجنس و المخدرات وقتل الوقت قتلاً متعمداً وحين ترتد أمواج الخيبة على جيل تربى على خرافة التغيير فلا يُـفلت هجرته خفر السواحل ولا تُسعفه قوارب الموت وحين تشـدد الحراسة على الناس في الحي والمؤسسة ودور العبادة ومقرات الجمعيات ومقرات الأحزاب والمعاهد والجامعات وتكثّـف المراقبة على المقابلات الاجتماعية والعائلية و الاتصالات الهاتفية والفضاءات الافتراضية.فقد صار السجن السياسي حينها نظاماً للمنع والتحجير والإقصاء مُعمماً على جميع منا شط الحياة.

وحين نعقد مقارنة بين فضاءين:الأول فضاء السجن والثاني فضاء المجتمع. فإن الملاحظات العامة التالية مع كونها متعجلة تظل كافية لترسم ملامح النظام السجني الذي قامت الأجهزة الأمنية لنظام ابن علي بتعميمه على مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية جميعها:


  • فكما يتوزع المقيمون في السجون بين سجناء الانتماء(المنتمون لحركة النهضة الإسلامية) والمشار دوماً إلى معاملاتهم وملفاتهم بحرفي:( ص.خ )أي صبغة خاصة و سجناء الحق العام، فإن الحياة السياسية خارجها قد فرزت التونسيين إلى فئة الإنتماء لشريحة المضطهدين من عموم التونسيين و المناضلين السياسين وعوائلهم بما هم في نظر أجهزة الرقابة الأمنية مواطنون من ذوي الصبغة الخاصة من جهة وبين فئة ثانية من المواطنين ممن لا تزال "عقائد الخبز" تحكم وعيهم وتستسلم حياتهم لزيفها.


  • وكما يعاني سجناء الصبغة الخاصة في داخل السجون من الإهمال الصحي والعقاب بالعُـزلة الانفرادية أو المنع من الزيارة أو الترحيل إلى سجون يشق على أهاليهم زيارتهم بانتظام،و يمنع على سجناء الحق العام(إلى حدود 1998) الاتصال أوالإختلاط بهم وكان وجود بعض سجناء الصبغة الخاصة في الغرفة الواحدة تثير في نفوس المائات من سجناء الحق العام قلقاً بسبب تأثر إقامتهم بتضيقات نظام الصبغة الخاصة الممارسة على الإسلاميين وفيما كان الأمر بالسجون على ذلك النحو، كانت الحياة السياسية في الخارج قد جعلت من مناضلي الحقل السياسي والحقوقي الواقعين تحت المراقبة الدائمة والمشددة ، يواجهون نفور بعض أصدقائهم خوفا من بطش الحاكم، ويتعرض المواطن للمساءلة الأمنية لوعُرف بإختلاطه بأحد المناضلين وسيشعـر صاحب مقهى أو صاحب محل عمومي للأنترنات بضيق وحرج المراقبة الأمنية لو دخل عليه أحد المناضلين العاملين .وقد جعل الإصرار من أولئك المناضلين على اللإلتزم بالقضايا الوطنية والحقوقية العادلة، وجرأة مواجهتهم لحواجز المراقبة، مثير للغرابة في عيون عموم مواطنيهم.


  • وكما يُحرم السجناء المعرفة فلا يُسمح للراغبين منهم في متابعة دراستهم من داخل السجن، و لاتسمح لهم نيل المعرفة إلا من بعض الكتب الهزيلة مما أبقت إدارات السجون عليها في مكتباتها العامة من باب لزوم ما لايلزم ولا تسمح لهم بالإطلاع على الأحداث الجارية بالعالم إلا من خلال قناة سبعة التونسية وحدها أومن خلال الصحف التونسية التي لا يسمح بدخولها إلا بعدما ينقضي وقتها ليحوّل مقص الرقابة بعض مقالاتها إلى نوافذ فارغة يتسلى السجين بمراقبة زملاءه من خلالها.وكما يحدث هذا للسجين في الداخل فإن نظام السجن المعمم يمنع عن المغضوب عليهم أو المسرحين من فئة الإنتماء في الخارج حق العودة إلى الجامعة ومتابعة دراستهم، كما يمنع عرض عناوين مخصوصة من الكتاب السياسي والديني في المكتبات أومن تداول صحف عربية أو عالمية بعينها بين القراء.


  • وكما لا يسمح للسجناء باستقبال عائلاتهم وتفقد أحوالهم والإستماع إلى أخبارهم الجديدة إلا تحت الحراسة و من خلال حواجز غرف الإستقبال- Parloir Le- فإن أجهزة المراقبة التي طورتها الدولة الأمنية قد عممت نظام–Le Parloir - في إتصالات المواطنيين المباشرة بعضهم ببعض وفي إتصالاتهم اللاسلكية والإلكترونية فراقبت هواتف بعض المواطنين وقطعت خطوط أخرين، مخافة أن يلجوا مواقع إلكترونية محظورة أو يخترقوا الحجب المضروبة عليها، كما مـنعت على أشخاص بعينهم أيضاً دخول قاعات الأنترنات العمومية أو يُحذر صاحب قاعة الأنترنات إن مكّـن شخص بعينه من الإبحار في الشبكة.


والواقع أن الاسترسال في عرض أوجه التماثل الكثيرة بين السجن بوصفه مؤسسة عقابية للمحكوم عليهم والسجن بوصفه نظام عقابي مسلط على أفراد المجتمع، تكشف عن طبيعة الخلفية الأمنية والإستئصالية المعادية للإنسان التي تميّز هذه الدولة، فهي حين تحرم الإسلاميين من العمل السياسي تفعل الأمر نفسه مع باقي الأحزاب الوطنية المعارضة و حين تقمع الإسلاميين لاتتأخر لتفعل الشيء ذاته مع باقي الأطياف السياسية والمجتمعية في تونس وحين تحرم الإسلاميين الذين زجت بهم في السجون من نعت السجناء السياسيين لا تلبث أن تفعل الأمر نفسه حين تلقي بغير الإسلاميين في السجن بدعاوى اقتراف جرائم الحق العام.


محنة سجناء السياسة، محنة المجتمع التونسي

استثمرت جميع وسائل الدعاية الحزبية والحكومية في نظام ابن علي ما كان يحدث في الجزائر من اقتتال داخلي، لتضع خصومها من الإسلاميين هدفاً لسهامها، ولتصنع فراغاً حول حركة النهضة الإسلامية و تقذف في نفوس التونسيين الخوف والحذر من احتمال صعودها في انتخابات 1989، وقد سهل ذلك لاحقاً تمرير كل الاتهامات المعدة في دوائر وزارة الداخلية بغرض توفير الحجة على تورط أبنائها في اجتياز المحاذير الأمنية.وبقدر ما كان ذلك يوفر الأساس الموضوعي لشن أكبر عملية أمنية عرفتها تونس منذ 1956. كانت تلك العملية التي تجري تحت عناوين حماية البلاد من التطرف الديني والإرهاب الإسلامي، قد ساعدت الحكم على نقل نزاعه ضد الحركة الإسلامية من الساحة السياسية إلى الساحة الأمنية والأخلاقية ووفرت لخطابه حجة استئصالها وحرمان أبنائها من صفة السجناء السياسيين.

لقد ظلت مسألة السجناء السياسيين إلى غاية النصف الأول من التسعينات على الأقل، قضية يجري التعامل معها من قبل الأطياف السياسية المعارضة على أنها قضية خاصة بحركة النهضة الإسلامية حصراً، فالاعتراض على قمع الحركة وسجن أبنائها لم يتجاوز بادئ الأمر، الشجب البياني أو الدعم والمساندة بمبادرات فردية.

إن المعالجة الأمنية التي تعاطى بها نظام ابن علي مع خصومه السياسيين ومناضلي المجتمع المدني عموماً كشفت ما عليه نظامه من إفلاس على المستوى السياسي وماحمله تغييره من مشاريع إمبريالية متصهينة لن يجد لها في الساحة السياسية، من بين المعارضة الشريفة، من يشاركه في إنجازها، وعليه فإن تنفيذ مشاريعه تلك، تستلزم تجميد المعارضة الجادة بعد استئصال حركة النهضة الإسلامية رأس حربتها، ثم الإبقاء على حالة الطورىء غير المعلنة، إذ لن يستقيم له الأمر لو جرت منافسة سياسية مع أي من المعارضة الوطنية الشريفة،إن تقيد هو بقواعدها.وكل جهوده لحمل المجتمع على رأيه وخياراته كانت تمر عبر المعالجة الأمنية حصراً، أكان الأمر مع الإسلاميين أو اليساريين أو الليبراليين أوالحقوقيين، وهكذا فأمام العجز و الحرج من الدخول في سجال سياسي مع المعارضة وأمام شرعية العنف الذي تمنحه إياها مؤسسة الدولة وبالاستفادة من القدرات الأمنية التي طوَر وسائلها، كان نظام ابن علي يجد كل الراحـة في رمي معارضيه في السجون بعد تجريمهم ثم تصنيفهم ضمن سجناء الحق العام. ولقد كان حرص نظام السابع من نوفمبر على نقل صراعه ضد خصومه السياسيين من دائرة السياسة إلى دائرة الأمن و الأخلاق ما من شأنه، بزعمه، أن يُـفقد خصومه هوياتهم السياسية ورأسمالهم الرمزي ويُعفي في نهاية المطاف الأنتليجنسيا الانتهازية المتحالفة معه من مناظرات عجزت، مع تراكم تناقضاته وفشل برامجه، على الدفاع عن سلامة نهجه أو إقامة الحجة على وطنية خياراته، وظلت، في جميع المناسبات، تتحصن فقط خلف الإدانات الأخلاقية و الخطوط الحُمر الأمنية، دون أن تُعْـلي للحجاج سـقفاً سياسياً متناسباً مع شعارات النظام الموصوفة بالتقدمية.

وبمناسبة الهجمة على الإسلاميين والإلقاء بهم في السجون كانت الأجهزة الأمنية قد أجرت تعميم تلك الحالة على جميع مناشط الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وأدى قـرض نظام ابن علي لمكونات المجتمع المدني والسياسي بمقارضه الأمنية وتفخيخه من الداخل بحلفائه من الانتهازيين حداً أفقد المجتمع مناعته وخياراته الحرة، وسهل إنجاح برامج المسخ والتغيير التي جاء السابع من نوفمبر يتأبطها. و فيما كانت كل البرامج السياسية والثقافية والاجتماعية تعمل على اختطاف الجيل الجديد من شباب البلاد وتحويل وجهته بعيداً عن التطور التراكمي للوعي السياسي والمدني للشعب التونسي وعن التجربة التاريخية لنضالاته الميدانية و السياسية والمجتمعية كانت تلك الحالة الأمنية المُعـممة قد أنجزت فعلا قطيعة بين جيلين تونسيين ومنعت الرقابة بآلياتها المنهجية فرص التواصل الاجتماعي بين الجيلين وصنعت فراغاً حول الجيل السابق من مناضلي المجتمع المدني وعـزلته. وعمّمت العزلة الانفرادية على الجمعيات الحقوقية والأحزاب الوطنية والشخصيات المناضلة وجرى التعامل معها بصبغة خاصة(ص.خ) كما يجري الأمر تماماً في السجون مع الإسلاميين.

لقد أكدت المنظمات الحقوقية والإنسانية المحلية والدولية أن المحاكمات التي تعرض لها الإسلاميون طوال الخمسة عشر عاماً، كانت تفتقر إلى أدنى شروط العدالة.وأن عدد الوفيات في صفوف الإسلاميين خلال الخمسة عشر عاماً، جاوز الأربعين حالة، جراء التعذيب في مراكز الأمن أو نتيجة الإهمال الصحي في السجون أوالهرسلة المتواصلة للمسرحين.وأن الأحكام المؤبدة تشمل 59حالة منهم وأن بعضهم قضى ما يزيد عن الثلاثة عشر عاما متواصلة في العزلة السجنية. وأن المراقبة الأمنية (المسمات إدارية) بعد قضاء السجناء محكوميتهم، تضعهم مجدداً على ذمة وزارة الداخلية وتعـرّضهم للإهانات القاتلة ما دفع اثنين من الإسلاميين المشهود لهم بالتدين وحسن الخلق إلى الانتحار.وحين يحاكم الإسلاميون من ثلاثة إلى ست مرات على التهمة الواحة لضمان أقصي الأحكام،وحين تُـكره زوجاتهم على تطليق أزوجهن السجناء..... . فإن صورة الوضع لمحاكمات الإسلاميين وما استتبعته من انتهاكات وما خلفته من أثار مادية ونفسية على عائلات السجناء وأبنائهم وما كان للهجمة الأمنية من أثار بالغة الخطورة على مائات الألاف من التونسيين ممن لهم علاقة قرابة أو صداقة أو علاقة جوار بالإسلاميين المحاكمين أو ممن كان التدين ظاهر سلوكهم، وماكان لكل ذلك من نتائج على مصير الحياة السياسية لاحقاً، ستجعل من محنة الإسلاميين محطة للمراجعة السياسية لماآل إليه المجتمع التونسي من سقوط متسارع بانخراطه الإرادي أو القسري في اللـعبة الأمنية و لما آل إليه الأمر أيضاً من خنق لمؤسسات المجتمع المدني العريقة ومحاولة متعمدة لتدميرها.وكلما كانت الأسئلة البسيطة بمناسبة تلك المحنة تتسع لتخاطب الضمير كانت الأسئلة الإشكالية تتوالد على وقع الحصار الأمني الذي انغلقت دائرته حول الجمعيات والأحزاب والنقابات القطاعية والشخصيات الاعتبارية والعامة من الناس وتحفر عميقاً وعي جديداً بالمحنة .وبدأت أصوات الرفض تتعالى: مع سهام بن سدرين و منصف المرزوقي وبدأ نظام إبن علي يفقد شيئاً فشيئاً حلفاءه، فيما بدأ المجتمع المدني يستعيد مع الضعف، عافيته.

والتحركات التضامنية للمجتمع المدني لاحقاً، التي التفت في لجان مساندة حول محمد مواعدة وحمة الهمامي وتوفيق بن بريك وراضية النصراوي وعلي الرواحي... ورسالة حق عند سلطان جائر للقاضي مختار اليحياوي وانتصارات المغفور له زهير اليحياوي في غزواته للساحات الافتراضية، و هبّة محمد عبو نصرة للسجناء و استنكارا لتعذيبهم ثم تلاها إضراب قطاع المحاماة. وقطاع التعليم.. جميعها كانت مناسبات وطنية راكمت ضربا جديدا من النضال المشترك وأسست لوعي جمعي في التعاطي مع الشؤون الوطنية الراهنة منذ 18أكتوبر2005 على قاعدة النضال من أجل الحقوق والحريات. ولقد أسهمت مراكمة النضال على مدى السنين الخمس الماضية إلى إخراج ملف السجين السياسي من مشاغل عائلته السياسية حصراً ليصبح هماً وطنياً مشتركاً بين جميع الأحزاب والجمعيات الوطنية المناضلة وعنواناً جامعاً للقمع السياسي وإنتهاك الحقوق وعلامة فارقة لمحنة المجتمع التونسي كله.


الجزء الثاني

إن الخصوصية الجامعة التي تجعل مسألة السجـن السياسي القضية الأم للقضايا التي تشغل الأحرار من التونسيين، هي كون مؤسسة السجن بما هي مؤسسة عقابية لا تستهدف بالعقاب السجين الفرد بحد ذاته فقط ولا فاعل الجرم بصفته البشرية وحسب وإنما في واقع الأمر تجري معاقبة ذاك السياسي بما هو: هوية عاقلة وكيان مجتمعي وفعل للحق.فتجريم السياسي منهج يعمل على بتر السلوك وطمس الوعي واحتكار دوائر الفعل السياسي وهو أيضا يقنن أنظمة السجن العقابي ويعممها.وإذا كان السجن أكثر الصيغ الحسية بداءة للعقاب المؤسسي، فإن إرادة الاستبداد قادرة على أن تجعل له أنظمة بالغة التجريد و المرونة، تشارك الفرد والجماعة معاشهما بإكراهات ناعمة، لاتلبث الطباع البشرية أن تتطبع عليها بعد التبلد.

إن الذين لا يزل نفاقهم السياسي يهيم بهم فيدَعون أن محنة الإسلاميين في السجون هي محنة إنسانية وليست محنة سياسية هم في واقع الأمر أحد صنفين: إما أنهم حلفاء إسترتجيون لنظام إبن علي وحماة لمشاريعه الإمبريالية المتصهينة أو أنهم حلفاء موضوعيون أدى عنهم نظام إبن علي بقمعه الإسلاميين، ما لن يترددوا في أدائه لو أن الأمر بيدهم. فحين بتحذلقون في إجتهادهم بالتمييز بين الحقوق السياسية للإسلاميين وحقوقهم الإنسانيةوحين يعتبرون السجن السياسي منحة لايستأهل الإسلاميون التمتع بها، إما لأنهم أجرموا كما يقول الحلفاء الإستراتيجيون أولأنهم ظلاميون على حد وصف الحلفاء الموضوعيون، إنما يعكس عمق الفصام الذي تعانيه هذه الذهنية السياسية المهترأة والمشبعة بلوثة الاستبداد التاريخي. ففي الوقت الذي تجتهد هذه الذهنية بإظهار رقتها وإنسانيتها حين تعترف بالوجه الإنساني لمحنة الإسلاميين دون الوجه السياسي، فإنها تكون قد أسقطت التاريخ من قراءتها وأفرغت نزاع الإسلاميين ضد مشاريع الدولة الحديثة في العهدين البائد واللاحق، من كل المضامين الإشكالية في السياسة والفكر والتاريخ, وهي تقرأ بذلك أيضاً الفعل السياسي بصورة مفارقة للإنساني من جهة وتسقط من لوازم الفعل الإنساني كل مدلولاته السياسية، وتنزع عن مؤسسة السجن ما تحمله من إمتيازات سياسية للدولة في مناوراتها ضد المجتمع المدني.وتطمس بشفقتها الزائفة تاريخا عريقا للإسلام السياسي في تونس لم تكن حركة النهضة الإسلامية إلا إحدى روافدها الأساسية المعاصرة.إن حلفاء نظام إبن علي الإستراتيجيين و حلفائه الموضوعيين حين يجعلون من السجن السياسي منحة، يجب عدم مكافأة الإسلاميين بها، ويكتفون بالشفقة الزائفة على إنسانيتهم المهدورة، يدركون مع ذلك أن السنين الخمسة عشر التي اُهدرت فيها إنسانية الإسلاميين في السجون وخارجها، كان نظام إبن علي، على مرأى منهم ومسمع، قد أهدر كرامة التونسيين جميعهم وأنتهك حقوقهم الإنسانية وصحر حياتهم السياسية. وفي الوقت الذي نشطت أجهزته من أجل تجفيف ينابيع الإسلاميين ومدارسهم الفكرية والشرعية كانت تلك الأجهزة ذاتها، بعد أن اطمأنت إلى ما بدا لها من نجاح في مهمتها، تجفف الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعيةو السياسية، وتلغي مكاسب عريقة للمجتمع التونسي نحت بأظافره، طوال ما يزيد عن القرن، تاريخها.

كما أن حلفاء ابن علي هؤلاء، لا محالة يدركون، أن عشرات الألاف من السجناء الإسلاميين (نحو 25ألف إسلامي أدخل السجن بين1990و2005) جاؤوا من خلفية ثقافية وتاريخية لا تزال برغم كل شيئ تنبض بالحياة.وأنهم بكل حال يمثلون خياراً منافساً يجد دوماً في الاستجابة الجماهيرية لهم ما يبرر وجودهم حتى ولو ظلوا لسنين رهائن السجون المعتمة. وأياً كان رأي خصوم الإسلاميين في مشاريعهم فإنهم، قبل إغلاق جامع الزيتونة وبعده، كانوا لايترددون في مواجهة مشاريع التغريب و في دفع التضحيات مقابل خيارات، لهم في أدبياتهم ما يأصلها و في وطنيتهم ما يشهد لها.وأن السجن السياسي ليس بدعة في تاريخهم ، ليمنحهم المخلفون شرفه، وأن تجربتهم التاريخية كانت ترفع ،دوماً بتضحياتهم، من سقف أمالهم وأمال شركائهم السياسيين وتصنع بمحنتهم جذوة نضال لأجيال لاحقة.

إن بعض خصوم إبن علي ممن يضعهم عداءُهم “الراديكالي” للإسلاميين في خانة الحلفاء الموضوعين مع النظام وأجهزته الأمنية حين يبعث فيهم، هدر إنسانية الإسلاميين في السجون، شعور بالأسف وحين هم، من جهة ثانية، يستكثرون على الإسلاميين حقهم في السجن السياسي، إنما هم في واقع الأمر يجعلون من آلام الإسلاميين ومحنتهم مناسبة لمقياضتها بحقهم في السياسة و هو نهج برغم الشفقة الزائفة، يؤسس، تماماً كما يفعل نظام إبن علي، لمقدمات إقصائهم من الساحة السياسية مستقبلاً.

وحري بهذا البعض ممن لا يجد غضاضة في إقصاء الإسلاميين من الحياة السياسية، أن يذ كر أن سجل الإسلاميين على إمتداد الخمسين سنة الماضية من التنكيل لم يقطع أوصالهم ولم ينزع شأفتهم وإنما إستدعى استئصالهم شن أكبر عملية أمنية شهدتها البلاد منذ خمسة عقود ضد المجتمع بأفراده وهيئاته ومؤسساته. وحري أيضا بمن، يخرج اليوم عن هيئة 18 اكتوبر للحقوق والحريات، بتحالفات موازية تشترط إقصاء الإسلاميين عن المشاركة أن يتأكد إن كان لمشروع دولة استئصالية تأتي غداً يقودها مثل هذا التحالف أن يمنح التونسيين من حقوقهم أفضل مما منحته دولة إبن علي للإسلاميين؟

وإذا كان لابد لمن رام إعادة النظر في دولة إبن علي ووْصفها بما يتناسب ومناهجها الأمنية مقارنة بماضي التونسيين وكان يعنيه أيضاً هذه الأيام الاحتفاء بخمسينية الاستقلال عن فرنسا، أن يذكر أن أحداً من التونسيين وعلى إمتداد الحقبة الإستعمارية، لم يقضي بالسجن مدة متواصلة بلغت الخمسة عشر عاماً مثلما قضاها الإسلاميون ولا يزالون يقضونها في سجون دولة ابن علي. وأن الإستعمار الفرنسي الذي كان قد حاكم التونسيين بتهم الخيانة والنيل من سلامة أمنها الداخلي والخارجي، وتخريب منشأتها، وتنظيم المقاومة المسلحة ضدها، كان يسارع أيضاً بعد بضع سنين فقط من صدور أحكام ثقيلة في حقهم. إلى إصدار قرارات للعفو لفائدتهم.

إن إصرار النظام على وصف السجناء الإسلاميين بسجناء الحق العام، وهم الذين كانوا أقوى الأطراف المنافسة له في إنتخابات89 يؤكد كما يفعل دائما، افتقاره إلى أي أفق سياسي مطلوب لبلد كان من أهم ميزاته التاريخية بين دول العالم العربي وإفريقيا، مبادراته الإبداعيه في السياسة المدنية( من نظرية العمران البشري لإبن خلدون إلى عهد الأمان مع نهاية القرن التاسع عشر إلى بعث أول حزب سياسي في العالم العربي1920 فتأسيس أول حركة نقابية 1924 إلى بعث سنة 1977لأول رابطة للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم العربي)
وما يزيد إلى حاجة النظام في التملص من ملف الانتهاكات ذات الطبيعة الحقوقية، بالنظر إلى تمسكه بعدم الاعتراف بوجود سجناء سياسيين في تونس تلك الضرورة الملحة في إبقاء ملفات خصومه من سجناء الرأي بعيداً عن الذاكرة السياسية الجمعية و بعيداً عن المراجعة والمقارنة النظرية بين خياراته وخيارات سياسية أخرى مقترحة وبعيدا عن استثمار خصومه للرمزية السياسية لمحنة السجن، وإخلاءاً للساحة السياسية الآن ومن بعده من بدائل وطنية، وترسيخاً لثقافة تجريم السياسي، وتكريساً لمنهج الإقصاء والاستئصال، واستدامة لحالة العقم السياسي الذي سقطت البلاد في دركاته منذ ثمانية عشر عاماً.

والدولة الأمنية وحدها حين ترهن المجتمع بمكوناته الحية المدنية والسياسية بين مؤسسة سجنية عقابية تنزع نعت السياسة عن السجين وبين نظام سجني عقابي يسحب عن المعارضة الجادة والنشطة حقها السياسي وتصبغ على التعامل معهم جميعاً صبغة خاصة. ووحدها هذه الدولة الأمنية بإقصاءاتها تلك لمواطنيها وهيئات مجتمعها و بتناقضات أجهزتها السياسية وأجهزتها الأمنية ستتطور إلى دولة أوليغارشية بيد عصابات ستعيد مراكمة دورة المال العام لتحول وجهته إلى خزائنها الخاصة.

ونظام السابع من نوفمبر الذي إنتهز انشغال العالم ووسائل إعلامه بزلزال حرب الخليج الأولى ليجهز على الحركة الإسلامية ويتخذ من حالة الاقتتال الداخلي في الجزائر حجة له لاستئصالها، فـقدَ اليوم كل معقولياته الدعائية التي بررت نهجه الأمني السابق في معالجته ملف الإسلاميين.فابن علي الذي ظهر في عيون التونسيين بصورة البطل القومي عند خروجه عن الموقف العربي بإزاء قرار التدخل العسكري في العراق في قمة مصر/1990، يجد اليوم نفسه في خدمة هذا التدخل العسكري ذاته من موقع" الجبهة التونسية لمكافحة الإرهاب" وحماية "الأمريكان" يحاصر ويعتقل بين سنتي2004و2005 شباباً تنادى لنصرة المقاومة العراقية ويزج بعد التعذيب ما يزيد عن150 منهم في السجون.

والقادة السياسيون الجزائرون الذين نجحوا في إخراج البلاد من محنة إقتتال سقط ضحيتها 150 الف جزائري، يثبتون أن الإرادة الوطنية الصادقة وحدها يمكن أن تنجز، ولوبحسابات محدودة الإنصاف، ميثاقاً وطنياً للسلم والمصالحة يستجيب إليه جميع الأطراف (الإفراج عن 2629 من الإسلاميين الجزائريين بموجب اتفاق المصالحة الوطنية) إلا أن هذا النجاح الجزائري في إنهاء أزمة البلاد مع المجتمع ومع الإسلاميين على وجه الخصوص، لايمكن لدولة ابن علي الأمنية، بأنظمتها المغلقة وميزاتها التسلطية، أن تستوعبه. فمقارنة الحالة الجزائرية مع ما قيل من قيام الحجة في تونس على تجاوز الإسلاميين للمحظورات الأمنية، وعلى الرغم من أننا لم نرى حجة أونسمع بينة على أن عود ثقاب واحد أشغله أبناء حركة النهضة الإسلامية. فإنه بعد خمسة عشر عاما من التنكيل بالإسلاميين و التدمير المنظم لمكاسب التونسيين، لاتزال وسائل دعاية ابن علي، مع إنسداد كل أفق سياسي للإصلاح، تعده بطلا وطنياً فريداً.


أحلام الإنفراج والخيارات الأمنية

يبدو أن الإفراج علىما يزيد عن السبعين من السجناء الإسلاميين في توقيت لم يعتده المنشغلون بالشأن السياسي التونسي، كان له من الوقع في نفوسهم ما دفع العديد منهم إلى التساؤل حول الأسباب الحقيقية وراء هذا الإجراء المفاجىء.وأكثر التفسيرات تداولاً، ردت الأمر إلى زيارة دونالد رامسفيلت ورغبة الولايات المتحدة في أن تردف الدولة التونسية إلى إصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية، إصلاحات سياسية.

والتفسير الثاني الذي تداوله المنشغلون بالشأن التونسي هو التقرير الذي رفعته لجنة الصليب الأحمر الدولي إلى الرئاسة والذي تعرض لوضع المحكومين من السجناء الإسلاميين.لكن ما أثار إستغارب الكثيرين أيضاً هو أن توقيت الإفراج كان يبعد بنحو خمسة وعشرون يوماً من تاريخ عيد الإستقلال، وهو ماجعل منه،برأيهم، حدث بدون مناسبة، بعكس ما كان يحلو لبن علي أن يفعل.غير أن الحدث من جهة أخرى دغدغ في نفوس البعض أمالاً صادقة في أن يروا في الإفراج عن السجناء من الإسلاميين، مؤشرات على الإنفراج السياسي. ومع أن كل تلك التفسيرات تظل إجتهادات مشروعة لفهم الواقع التونسي واستشراف مستقبله، إلا أنها لن تكون مقبولة إلا في حدود الاسترشاد بها فقط لما يمكن أن يرشح عن هذا الإفراج من وضع جديد بالبلاد، وما دامت لم تتجاوز هذه الاستنتاجات المجال التداولي للحدث السياسي ومادامت الدولة الأمنية وحدها، والحالة تلك، قادرة على إعطائه ما يحمل من مدلولات.

ومع أن الرئاسة تلقت فعلاً تقرير لجنة الصليب الأحمر الدولي الذي أعدته بناءاً على استجوابات لجميع سجناء الإسلاميين خصوصاً من أبناء حركة النهضة الإسلامية، خلال شهر جويلية من سنة2005، و استغرقت خلالها المقابلات مع كل واحد من السجناء بين الساعة ونحوها إلى الساعتين، فإننا نستبعد أن يكون للإفراج الحاصل في 25فيفري 2006 أثر ضاغط أدى إلى اتخاذ مثل هذا القرار وذلك لأن الإفراج كان جزئياً ولم يكن قد شمل كل المساجين ممن يعرفون بإلإنتماء إلى حركة النهضة الإسلامية، ناهيك عن كونه كان يتسم إلى حد كبير بالعشوائية ودون التقيد بأية معايير خاصة: كالمدة المتبقية من محكومية السجين أو معايير متعلقة بسوء سلوك السجين أوحسنه أو بتصنيف السجين في القضية المتهم بها من حيث أهميته الفعلية مقارنة بدور رفاقه فيها أو معايير متعلقة بالحالة الصحية التي عليها السجين.

  • فمن بين المساجين الإسلاميين من كان محكوماً بما يزيد عن العشرين سنة جرى تسريحه بينما لم يشمل هذا العفو بعض من لم يبق من مدة محكوميته إلا سنة أو سنتين.


  • كما أفرج عمن أشتهر لدى إدارات السجون بسلوكه المشاكس وتحريضه السجناء على الإضراب وعوقب لمرات بالعزلة، فيما المعروفون بحسن سلوكه من السجناء لا يزال بعضهم يقضون باقي محكوميتهم.


  • كما أنه من بين بعض المجموعات من السجناء المحكومون في ذات القضية تم تسريح المتهم الرئيسي في المجموعة وترك رفاقه الذين هم أطراف ثانويون فيها.


  • وفيما يوصف هذا الإفرج عن السجناء الإسلاميين بالعفو الرئاسي، لايزال عدد منهم ممن أدركت حالته الصحية حداً بالغ السوء، ولم يبقى من محكوميته إلا سنة واحدة، يرقد اللآن في المستشفى تحت الحراسة الأمنية دون أن يسعفه هذا العفو، في الوقت الذي سرح محكومون عنهم بمايزيد عن العشرين عاماً.

هذه الملاحظات التي سقناها تؤكد غياب معايير واضحة في عملية الإفراج حيث لابد أن تكون لجنة الصليب الأحمر الدولية قد نصحت بها إن لم تكن قد نصحت بإطلاق سراح الجميع.وحيث أن شيئاً من هذا لم يراع مع تدخل المنظمة فإن اعتقادنا يميل إلى التقليل من الأهمية المباشرة لهذا التدخل.

أما زيارة دونا لد رمسفيلت وما يعتقده بعضهم في أنها كانت وراء قرار الإفراج، فهو أمر لا نسبعده بكل حال وإن كنا لانر له في القرار أثر مباشر فمهمة رمسفيلت تأتي في سياق تترتيب النفوذ الجيواسترتيجي للولايات المتحدة الأمريكية على دول شمال إفريقيا ودعم خطط التعاون في نطاق الحملة الدولية لمكافحة ما يسمى بالإرهاب وأساساً من أجل البحث في سبل التعاون العسكري وإرساء قواعد عسكرية أمريكية في دول الشمال الإفريقي.والإشارة التي جاءت على لسان الوزير الأمريكي، بضرورة أن تجري تونس إصلاحات سياسية، إذا فهمت في سياق الإشادة بالنجاحات التونسية الاقتصادية والاجتماعية.و ما تعطيه تلك التصريحات من انطباعات عما تحمله مشاريع الإصلاح من حوافز وتطمينات فيما لوتمت تلك الإصلاحات بمواصفاتها الأمريكية وما يعنيه هذا الغزل السياسي من رضا، فإن معني الإصلاح السياسي لن يكون له أي مضمون خارج سياق الطبيعة الجوهرية للدولة الأمنية.

والواقع أن الإفراجات عن السجناء الإسلاميين عرفت في تونس بموسميتها وارتباطها بمناسبات رسمية وهي منذ بضع سنين تجري على ذاك النحو بصورة شبه منتظمة و تحقق لنظام ابن علي غرضها السياسي والأمني بصورة لا تستدعي تدخلا من أحد.و إن كان من تدخل من جهة ما، فإن تسريح السجناء سيجري على عادته وضمن الجدولة الكمية والزمنية المقررة وسيحقق ابن علي رضا وقبولاً بما سيُبديه لصالح الجهة المتدخلة من مرونة وتعقل مصطنعتين، وهو في الأخير لن يفعل حقيقة غير الذي يريد. ونظام ابن علي الذي ارتبطت طبيعته الأمنية و مصالحه الاقتصادية بمصالح الإمبريالية المتصهينة، لا تلوي ذراعه تصريحات قلقة على حالة حقوق الإنسان في تونس وهو أبعد من أن تنغص عليه تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية زهوه بما تدعيه له الآلة الدعائية من معجزات اقتصادية، ما دام قادر على أن يطعن في تلك التقارير و يثبت لحلفائه في الغرب إستقرار بلاده السياسي وتمسك التونسيين بقيادته الحكيمة.

غير أن السياق الداخلي للأحداث وحده، كما نعتقد، يمكن أن يسمح لنا برؤية أكثر وضوحاً بخصوص تفسير مدلولات الإفراج عن السجناء السياسيين في مثل هذا التوقيت وأثره على الحياة السياسية في المرحلة القادمة؟


  1. فرفع حركة 18أكتوبر لمطلب إطلاق سراح المساجين السياسيين في السجون التونسية، كان أكثر مطالبها إثارة وأقدرها وقعاً و إقناعاً لدى وفود المنظمات الحقوقية والإنسانية التي حلت بتونس أيام قمة المعلومات لاسيما وأن تلك الوفود تابعت الإضراب عن الطعام الذي شنته رموز حزبية ومجتمعية و زارت أسر عائلات المساجين السياسيين الذين شاركوا هم أيضاً في الإضراب عن الطعام في مرحلته الأخيرة.وهو إلى كل ذلك مطلب يقدم عينة مكثفة ومعبرة على مستوى الإنتهاكات الإنسانية والحقوقية التي يرتكبها الحكم في تونس.

  2. أن النجاح الذي حققته حركة 18 اكتو بر في حشد ها الإعلام العالمي وسحبها الأضواء إليها وحول مطالبها الثلاث وجر المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية خلال المرحلة الثانية لقمة مجتمع المعلومات وما قبلها، لنصرة قضيتها ثم التحركات والاتصالات شبه الدبلوماسية التي أجرتها رموز تلك الحركة في أعقاب القمة وما تحقق لها بنتيجة تلك الإتصالات من اعتراف بهيأتها التمثيلية الاعتبارية، كان قد أفقد نظام إبن علي أمام الجهات الدولية المعتبرة صورة الإجماع الوطني الخادعة التي تحرص آلة الدعاية الإعلامية على ترويجها.


  3. أن التجمع الذي دعت إليه الهيئة الوطنية للحقوق والحريات يوم24فيفري كشف لأول مرة عن وقوع النظام تحت ردة فعل مبادرات المعارضة المدروسة، مما دفعه إلى التسريع بالإعلان عن العفو الرئاسي الذي كانت قوائمه قد أعدت للإعلان عنها في20مارس احتفالا بعيد الاستقلال وعلى عكس الإفراجات السابقة التي يبلغ فيها السجناء بالإفراج فإن المسؤلون من حراس السجن أنفسهم قد بلغهم نبأ الإفراج من نشرة الأخبار الرسمية و هو ما يدلل على أن توقيت الإفراج، وليس قرار الإفراج، كانت الهيئة الوطنية للحقوق والحريات قد حددته. فنظام ابن علي الذ ي يَستعدُ منذ مايقرب عن السنة ليجعل من الاحتفال بخمسينية الاستقلال مناسبة متميزة لعهده المتجدد، صار يتوجس خيفة من أن تفاجأه هيئة18 أكتوبر فتسرق أضواءه وتتغذى وحدها على موائده.

  4. إن برنامج ما وراء الخبر بقناة الجزيرة ليوم 23فيفري الذي تناول حواره خلفية التحرك السياسي للمعارضة التونسية المنضوية تحت الهيئة ثم التغطية الإخبارية في نفس القناة خلال يوم غد كان له في الرأي العام التونسي وقع مؤثر يتجاوز تأثير حدث التجمع نفسه.

  5. أن النهج الذي تسلكه الهيئة الوطنية للحقوق والحريات باتجاه إفتكاك الفضاء العام وتحت المطالب التي ترفعها حصراً، يفسر حالة الإستنفار الهستيري للآلاف من أعوان الأمن في شوارع تونس العاصمة ومداخلها في مواجهة بضع مائات من المناضلين، وحشد مايقرب عن 3000 عون أمن من جميع الفرق_رقم تقديري_ في مساحة لاتزيد عن الكلومتر مربع إنما تضيف إلى قائمة الخطوط الحمر في أنظمة الرقابة السجنية، خطاً جديداً تفسر الحساسية المفرطة لدى النظام من كل تحرك ميداني ولو بدا نخبوياً.

لا يبدو أن صورة الوضع الذي عليه البلاد بعد الإفراج على السجناء الإسلاميينتقدم لنا ما يشير إلى أية رغبة ظاهرةأوخفية في تنقية الأجواء مع المعارضة، فقرار الإفراج هو قرار لايخرج عن المعتاد من سلوك النظام خلال السنوات الخمس الأخيرة فإن تأويل الإفراج على أنه تحول في سياسته تجاه الإسلاميين، يظل تأويل مجانب للصواب لكون ملف المساجين السياسيين- من أبناء النهضة وشبان جرجيس خصوصاً وهم الذين تم إطلاق سراحهم -بات مسكه يزيد في كلفته على النظام. وهو يعبر أيضاً عن فشله في إقناع أصدقائه الأوروبيين وحلفائه الأمريكيين أن ملف حركة النهضة يندرج ضمن مكافحته المبكرة للإرهاب المحلي. ويجد النظام في التخلص منه أمر يساعد على تحسين صورته وإسقاط ورقة ضاغطة تمسك بها المعارضة، ـ ومع أن النظام خفض ثلث المدة المتبقية للسجناء السياسيين ممن لم يشملهم هذا العفو، وهم بضع عشرات )+/-70من أبناءالنهضة المتبقين بحسب السجناء أنفسهم(، فإنه لن يتأخر في الإفراج عنهم في الأيام (20مارس) أو الأشهر ( 25جويلية)القريبة القادمة.

غيرأنمايزيد عن 150 من الشباب رواد المساجد الذين شملتهم الحملة الأمنية منذ أفريل2005، لايزال إبن علي يؤكد بتمسكه بهم رغم ضعف أدلة الإتهامالموجهة إليهم ،إن السياسة ليست طبيعة متأصلة في نظامه وإنما الثابت أن الأمن هو جوهره.ورغم أن الإفراجات الجزئية التي دأب النظام على إعلانها منذ 1999 في كل مناسبة وطنية، لاتقدم أي مؤشر على الإنفراج السياسي، إذ يسارع النظام بعدها دائما إلى التأكيد على التزامه خطاً لايزال ينهجه، فإن بعض المعارضين من الإسلاميين وغير الإسلاميين في كل مناسبة من مثل هذا الإفراج، لحسن نيتهم أو لسوء فهمهم، لايترددون في التعبير عن أحلام الإنفراج التي قد يجود بها نظام السابع من نوفمبر فجأة على الحياة السياسية في تونس.والواقع أن إطلاق سراح المساجين السياسيين على دفعات وفي مناسبات إما وطنية أو حزبية، ورغما عن كونه يجري، كما اعتدنا أن نرى، في سياق إنعاش الطابع الاحتفالي لمناسبات، فقدت في عيون التونسيين مبرراتها، فإنها بدرجة أولى، تندرج في إطار إعادة الدمج الأمني في صيغته الاجتماعية:الاطمئنان إلى أن السجين السياسي المسرح لم يعد يشتغل بالسياسة، يمارس شغلاً يقطع أنفاسه طوال النهار، مشغول بأهله وأبنائه الذين كبروا في غيابه، مشغول بالعناية بالأثار الصحية المزمنة التي سكنت لحمه وعظمه طوال سنين السجن...ولأن هذا الدمج هو دمج أمني صرف فسيستمر العقاب بعد السجن بحرمانه من العودة إلى الجامعة إن كان طالباً وإلى عمله إن كان موظفاً أو عاملاً... فهذا الإندماج الاجتماعي لن يسهل عليه العودة إلى مؤسسته أوجامعته ولن يعوضه مادياً ولن يمكنه من بطاقة معالجة مجانية ولن يرد عليه بطاقة هويته الوطنية إن إنتزعت منه ولا جواز سفره أبداً لو توفر له عرض عمل في خارج البلاد، أوتمنى على الله أن لا ينهيه الوهن ولا تقضي عليه الأمرض الخبيثة قبل أن يحج البيت الحرام ويزور القبر الشريف. إن الإفراج على دُفعات عن المساجين السياسيين بصورة دورية وفق مناسبات حزبية أو وطنية، مرتبط بالمراقبة الأمنية وخطة الأجهزة في الإستعاب والتأطير ضمن المنظومة الرقابية بوظائفها العقابية بالبلاد، فعملية الإفراج وبالنظر إلى الأفاق السياسية المسدودة لا يمكن بحال أن تُـقرأ إلا على أنها عملية ترحيل منهجي للسجين السياسي من مؤسسة السجن العقابية إلى نظام السجن العقابي، وهي في المحصلة دورة جديدة لرسكلة المـُسرحين ب
صبغة خاصة من المراقبة و لإعادة إنتاج المجتمع المقهور.....