الاثنين، ماي 15، 2006

المتنوّرون في تونس و الحداثة المغشوشة





باسم الله الرحمان الرحيم

بقلم محمد الفاضل



في النصف الأول من التسعينات و في ما كانت الموجة الثانية للهجمة الأمنية على الحركة الإسلامية لا تزال نشطة كانت الأنتليجنسيا قد قفزت بخطوتين إلى الأمام: بخطوة أولى نحو لحظة التغيير من حركة السابع من نوفمبر ومن ثم بخطوة ثانية نحو بعض المقاعد المتقدمة من سدة الحكم، متجاوزة كل التناقضات الإيديولوجية المفترضة و منزلقة عن كل التصنيفات الطبقية التي موقعت نفسها، فيما إدّعت لعقود، أنها أكثر خاناتها طلائعية، و قطعت فجأة مع كل الإلتزامات الأخلاقية و الحقوقية التي صنعت فيها و بها أمجادها، تجتهد في ترشيد العهد الجديد بوضع معالم طريق مواجهة الظلامية الإسلامية في تونس. و فيما كانت تضع كل أرصدتها العلمية و السياسية و الاقتصادية في مزادات السابع من نوفمبر و تنخرط في نظام السوق قبل إفتتاحه، و فيما لا تزال الدولة بحزبها و مؤسساتها و أجهزتها الأمنية، تشن حملات تمشيط، مدينة بعد مدينة بحثاً عن الكتاب الإسلامي و تـعْـقل ملايين الكتب [1] من المكتبات الخاصة و تجرم تداولها و تعتقل عشرات الآلاف من أصحابها، كانت تلك الأنتاليجنسيا تجعل من لحظتها تلك منعطفاً حاسماً من أجل الحداثة و تفتتح عهداً تأسس لنفسها فيه مع الأمّية السياسية، و تعقد مع السلطة تحالفاً لن ينفرط عقده لاحقاً إلا حين تتراجع أسهم نظام السابع من نوفمبر و تكسد بضاعته. و بعد أن عاثوا في البلاد فساداً و إفساداً، كان و لايزال يُعتـقد، أن تلك المعركة تخاض من أجل عيون الحداثة، و أن عصر التنوير يجب أن يدشن بلحظة القطيعة الشاملة مع "الظلامية الإسلامية".

لقد ظلت النخب الجامعية في تونس طيلة الخمسين عاماً الماضية تنشط أكاديمياً و ثقافياً بعيداً عن اليومي من الحياة الاجتماعية و السياسية بالبلاد، بل و في بعض المراحل السياسية بعيداً عن نشاط و هموم الحركة الطلابية بالجامعة التونسية ذاتها، و عن هموم الحركة العمالية أيضاَ، و مع أنها خرّجت أجيالاً من الكفاءات العلمية العالية فإنّها لم تستطع أن تنقل خبراتها العلمية و كفاءاتها الأكاديمية من دائرة الاهتمامات الجامعية المتخصصة إلى ساحات الفعل المجتمعي و السياسي. فقد ظلت الخبرة و المعرفة التي أفادها الإنتاج الجامعي حكراً على استثمارات الدولة أساساً دون المجتمع المدني، كما ظلت بحوثها رهينة سياسات الدولة بدلا من أن تكون رائدة الحياة الفكرية والسياسية و المجتمعية بل و رضيت بوعي منها أن تلعب باسم الأكاديمية ظهيرالخطاب السياسي الرسمي.

ولئن كانت النخب الجامعية على وجه الخصوص محدود إنخراطها في حركة المجتمع السياسي بين (1956-1987) من مواقع المواجهة ضد الدولة الرأسمالية البورقيبية التابعة و هو موقف لا يبرره بحسب أدبياتها الأصيلة غير طبيعة سلوك البورجوازية الصغيرة ذي النفس النضالي المحدود، فإن إنخراط تلك النخبة في المرحلة اللاحقة في أجهزة الدولة الأمنية لبن علي منذ 1987 و إلى غاية اليوم تكشف عمق المرض الطفولي الذي أصاب تلك النخبة من البورجوزية الصغيرة لا سيما بعد أن اختارت دونما مراجعات أن تلعب داخل مؤسسات الدولة الأمنية و من مواقع متقدمة، دور(المثقف العضوي) على طريقتها.

كانت الجامعة التونسية قد عرفت منذ نشأتها، صراعاً حقيقياً قلّ أن نجد له نظير في الجامعات العربية، بكليات الآداب و العلوم الإنسانية، ينهض على أساس منه إنكار فريق من نخب تلك الجامعة وجود فلسفة إسلامية، فيما يكابد الفريق المقابل من أجل الإعتراف بوجودها. و أياً كان الأمر، فقد ظل هذا السجال يجري على نحو لم يخرج فيه عن الطبيعة الحيوية التي كانت دوما تعرفها الساحة الجامعية خاصة و الساحة الثقافية في تونس عامة، لا سيما و أن الحركة الإسلامية، مع تناميها، مثلت أحد الأطراف الأساسية في معادلة الصراع الإيديولوجي في الشارع السياسي في تونس.

كانت خطابات الفلسفة و العلوم الإنسانية و الحضارة في الجامعة التونسية بما هي خطابات يحتكر، بعض رموزها المناهضة للفلسفة الإسلامية، منبر العقلانية، قد أعلنت إنخرطها مع مؤسسات الدولة، الأمنية والحزبية في جبهة موحدة ضد الظلامية، و انخرط الرعيل الأول من "التقدميين و مريديهم" منذ 1987 في لجنة الفكر بالتجمع الدستوري الديمقراطي أو/و في المواقع الأكثر تقدماً بمؤسسات الدولة ينصحون لها، و يرسمون لها مناهج تطبيقية للتنوير[2]، مؤكدين أن تجفيف ينابيع فكر التيارات الدينية جزء أساسي من المهمة. و أن تعديل الموقف لصالح الإعتراف بالفلسفة الإسلامية و إستثمار بعض إمكانياتها التحررية في المرحلة الراهنة، ليس سوى تكتيك يندرج ضمن موجبات تفصيح معركة طلائع التنوير، لا سيما و أنها ظلت عاجزة أمام قطاع واسع من جمهور المثقفين على التخلص من مشاعر اليتم الحضاري كلما كانت اللحظة التاريخية تضعها في مواجهة الإسلام الاحتجاجي.

وفي السياق السياسي من معركة تلك النخبة من أجل حداثة مدفوعة الأجر، اُستُـدْعيَ
ابن رشد في التسعينات إلى برامج التعليم والمنتديات و الملتقيات الفكرية و الفلسفية و إلى الدراسات الأكاديمية و غير الأكاديمية و إلى دور السينما[3] و إلى أعمدة الصحف التونسية الصفراء ليكون رجل المرحلة و لتقاد الحملة ضد الإسلاميين تحت لوائه و لــيُجبر هو نفسه على الاصطفاف خلف الأجهزة الأمنية و لتصطف تلك النخبة الحداثوية بيتمه، خلف الرجل، تشهد له بالعقل و التنوير. و ليعاد توصيف المعركة مع الإسلاميين في التسعينات على أنها ذات الخصومة التي كانت بين أبي حامد الغزالي [4] و أبي الوليد إبن رشد [5] يعاودها الأحفاد اليوم. و أن معركتهم هذه ليست منزوعة من سياقها الحضاري و أن هذه النخبة، من موقع تحالفها مع السابع من نوفمبر، إنما تتابع مطمئنة اليوم معركتها ضد ظلامية العصر، كان أباً لها (إبن رشد) قد دشنها من أجل تهافت "ظلامية" أبي حامد الغزالي [6].

و لقد إستحكم المنظور الإستشراقي للفلسفة الإسلامية لدى هذه النخبة ما أنتج قراءة انتقائية لإبن رشد لا ترى في فلسفته من راهنية إلا بمقدار ما تحمله معركة التسعينات ضد الإسلاميين من دواعي تفصيح تلك النخبة لمعركتها و تأصيل خطابها من داخل الفلسفة الإسلامية بصورة لن تكون الهوية إلا واحدة من الإمكانيات التي تطمح هذه النخبة إلى إستعادتها في حدود الحاجات التي تمليها المرحلة.

كانت سنة 1995 قد وافقت الذكرى المائوية الثامنة (1195) لمحنة ابن رشد و كانت الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية قد نظّمت ملتقاها في سنتها تلك تحت شعار كان مسكون بالسياسة أكثر من سكنى الفلسفة:
إبن رشد اليوم، و لم يكن (علي الشنوفي) رئيس الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية وقتها ليخفي ما اكتشفته تلك النخبة، و هو يُعدد هواجس اختيار إبن رشد لربطه بعصرنا : ( أن فلسفة ابن رشد رغم اندراجها في زمن غير زماننا، يمكن أن تساعدنا على فهم بعض قضايانا الراهنة، ففلسفة ابن رشد إلى جانب فعلها النظري الخالص، أدت دوراً تنويرياً، ما زال قادراً على دعم تطلعاتنا إلى فكر نقدي يتصدى إلى مظاهر الزيف التي اكتسحت مجالات واقعنا و ثقافتنا....فقد عَرف ابن رشد مضار مزج الدين بالسلطة أي مضار الخطاب اللاهوتي-السياسي، رغم كل الجهود التي سخرها إقرار التعايش السلمي بين النزعات الفكرية المختلفة.....إن التأمل في كل هذه الإمكانيات الفكرية التي فتحها ابن رشد يجعلنا نعتقد أن المرحلة الحضارية التي نعيشها قد تكون هي المرحلة التي تبرز راهنية هذه الفلسفة و ضرورة استعادتها، و لكنها إستعادة لن تكون لها قيمة إلا إذا فهمت في حدود ضرورة استرداد فيلسوف قرطبة و مراكش كرمز خاصة ( رغم) أن فلسفته قادرة على أن تساهم بشكل جدي في إنارة الكثير من قضايانا الراهنة) [7].


و الواقع أن ابن رشد لم يُستَدْعَى من الماضي، بهذه المناسبة، من أجل شيء، إلا بغاية المشاركة في معارك الحاضر تحت بريق العقلانية ضد الدين و السياسة في آن معاً. إذ لم يُستــدْعى ابن رشد على امتداد سنوات التسعين و لا قبلها بوصفه شارحاً لأرسطوطاليس و لا دُعيَ ليدخل علينا بوصفه واضعاً لكتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" الذي كان عمدة في الدراسات الفقهية و الأصولية، و مرجعاً لتنظيم الحياة العملية التي ميّزت منذ عهد المنصور الموحدي حياة المغاربة و لا بوصفه
قاضي قضاة قرطبة و لا بوصفه طبيباً أو فلكياً أو فيزيائياً. لقد اُستحضر ابن رشد لسببين، أولهما الإحتجاج بمحنته [8] في القرن الثاني عشر على الظلامية الإسلامية التي بدأت تتنامى منذ الثلث الأخيرة من القرن العشرين، لذلك اختارت الجمعية الفلسفية التونسية محنة إبن رشد (1195) توقيت الاحتفاء بالمئوية الثامنة (1995) لذكراها، و لم تختر مولده أو وفاته توقيتاً للذكرى كما هي العادة في الاحتفاء بعظماء التاريخ و لا إختارت تاريخ تصنيفه شروحات أرسطو أو تاريخ و ضعه كتاب تهافت التهافت أو فصل المقال مثلاً. ثانيهما أن الملتقى اقتصرت مباحثه على المسائل العقائدية-السياسية، حصراً دون التعرض إلى غيرها من المباحث الفلسفية التي عجت بها شروحه و مصنفاته [9].

لذلك فإنإبن رشد اليوم لن يكون قادراً، بحسبهم، على أن يوفر لهذا العصر، أكثر مما يمكن أن تقدم مباحثه العقائدية و السياسية، في سياق مواجهة إبي حامد الغزالي
(أبو الإسلاميين اليوم) [10]، و ضمن رؤية تجعل من القطع بدل الإتصال، بين الحكمة و الشريعة أصلاً تأويلياً و فصلاً للمقال. و هي قراءة لا تخلو من معايب جمة ليس أقلها أنها تماثل مماثلة غير علمية بين التجربة التاريخية للإسلام السياسي و العقدي و بين التجربة الدينية المسيحية في التاريخ السياسي لأوروبا القديمة و هي أيضاً قراءة، مع كونها مدفوع لها سابقاً من الإستشراق و من النخب التغريبية العربية منذ أول القرن الماضي و حاضراً من الفرانكفونية [11]، فإنها لاتزال تتحذلق بلَيّ النصوص و اجتزائها دون أن تحضى مع ذلك بإجماع يحسم الباب و ينهي القول في المسألة.

و إذ تقدم هذه النخبة قراءتها تلك، فإنها لن ترى، من أجل معارك التنوير المزعومة، من مانع أن تخذل العقلانية كلما كان لزاماً عليها قياس الشاهد على الغائب و إستدعاء الماضي من أجل الإستنصار به، غير آبهة لسقوطها في منهج أشعري لم تكن منذ بعض الوقت تتردد في أن تحمل عليه. و هي برغم جُـبة الفلسفة الإسلامية التي تتزييَ بها تفصح بمنطق المصادرة على المطلوب في بحوثها عن انحيازها اللامشروط إلى حضارة الغرب العلماني، و بينما يؤكد فلاسفة التنوير أن العقل أعدل قسمة بين الناس جميعاً، تذهب هذه النخبة إلى أن عقل التنوير بمركزيته الأوروبية هو أفضل عقل يمكن أن يتقاسمه الناس جميعاً. و هو ما حدا أيضاً بتلك النخبة أن تخرج عن سكينتها لتشجب بصوتها تارة و بصوت ذيولها تارة أخرى حين وَزعت إحدى فروع الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية في ذات السنة و لنفس المناسبة، روزنامة سنة 1995 من الحجم الصغير، رُسم على خلفيتها صورة لتمثال إبن رشد مكتوب في أعلاها:
(العرب أعقل الأمم) [12] و قد استنكرت تلك النخبة فوراً نسبة صيغة التفضيل للفعل الثلاثي عَـقَـلَ إلى العرب حصراً، معتبرة أن مثل هذه المغالاة في وصف العقل عند العرب لا تستقيم لها حجة ولا تبررها إلا شوفينية متطرفة.

لقد شاءت تلك النخبة أن تعيد إحياء خصومة إبن رشد الأمس، بدعوى الدفاع عن العقل و الفلسفة ضد خطاب الغزالي، لتجعل من خصومتها هي، استمرارا لتلك التي جرت بين الرجلين، دفاعاً عن العقلانية و الحداثة ضد الإسلاميين اليوم، و هي تفعل ذلك غير آبهة إلى حقيقة أن المغاربة لم يكونوا إلى حدود عصر إبن رشد قد تعرفوا على علوم المنطق إلا من مصنفات الغزالي [13] و أن الغزالي ذاته حين صنف المستصفى من علم الأصول، و قد وضع الكتاب و هو في مرحلة التصوف، إفتتح مقدمته بالقول أن علوم المنطق
(هي مقدمة العلوم كلها و من لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً) [14]. و أن أبو الوليد إبن رشد كان يرى في الغزالي منذ (المختصر في المنطق) وهو من باكورة أعماله، إماماً من أئمة النظر و حجة في الأصوليات [15] رغم ما بلغه الخلاف معه في مصنفاته اللاحقة من حدة بالغة لم يكن إبن رشد يخفيها دفاعاً عن الحكمة لكن من غير أن تتعدى حدود التبجيل و التقدير الذين ظل يخص بهما الغزالي منذ باكورة أعماله إلى غاية( فصل المقال). لذلك فإن وضع الغزالي في مواجهة إبن رشد، مواجهة النقيض لنقيضه، محاولة غير منصفة نظرياً، فضلاً عن كونها مغرضة و مفضوح انتماءها و ولاءها. كما لا يستقيم موضوعياً وضع التقابل الذي يراد للرجلين أن يكونا عليه و الحال أنه مثل ما تعرضت مصنفات إبن رشد للحرق في(1195م) كانت قبلها مصنفات الغزالي قد تعرضت للمصير نفسه (1107م) حين أصدر قاضي قرطبة و زملائه، على أيام علي ابن يوسف ابن تاشفين حاكم دولة المرابطين، فتوى تتهم الغزالي بالابتداع فأمر بإحراق كتاب إحياء علوم الدين في قرطبة أمام الناس و نودي فيهم على إمتداد المملكة، بقتل من يقرأه [16].

و لو جوّزنا لأنفسنا قياس الشاهد على الغائب، على نحو ما جوّز أولائك لأنفسهم لقلنا: أن المئوية الثامنة لمحنة إبن رشد سنة (1195) و التي تم إحياء ذكراها في تونس سنة (1995) و كان يراد الإحتجاجة بها حينها على ما يوصف بالظلامية الإسلامية، كانت توافق في واقع الأمر محنة الإسلاميين في تونس بين السجون و التشريد التي دشنت لما سيعرف لاحقاً بمحنة المجتمع التونسي برمته و مكوناته المجتمعية الأصيلة و العريقة. و إذا كان إبن رشد قد اُمتُحنَ من قبل أبي يعقوب المنصور بالإبعاد عن القصر لمدة لم تزد عن السنتين ليعيد إليه التبجيل و الإعتبار بعد ذلك فإن نظام بن علي قد حكم على الإسلاميين في تونس بالمؤبدات و الموت البطيء، و عمم اللعنة لتشمل ذويهم و لتمتد إلى جميع أفراد المجتمع التونسي فلا تستثني أحداً و لتطول محنتهم إلى ما يزيد عن العقد و نصف العقد، في وقت لم يكن في بلاط النظام التونسي وقتها غير فقهاء التنوير من رموز يسار عَقدَي الستين و السبعين، قبل أن يميلوا على شعبهم ميلة واحدة.

و لو جاز لنا قياس الشاهد على الغائب لقلنا أن الحملة الأمنية في تونس على الكتاب الإسلامي في التسعينات من أجل إعدام كتب الإخوان المسلمون: حسن البنا و أبو الأعلى المودودي و حسن الهضيبي و السيد قطب و محمد قطب و سعيد حواء و فتحي يكن و مصطفى السباعي و عماد الدين خليل و ويوسف القرضاوي و كتب الغزالي ذاتها... و ما إستمرت عليه أجهزة الأمن في السنوات الأخيرة من الألفية الجديدة من تعقب لمصنفات إبن تيمية وأبن القيم الجوزية و كتب علماء المدرسة السلفية و معاقبة من يحوزها، كانت أكثر شدة و شراسة من الفتوى التي أصدرها قضاة الدولة المرابطية بحرق كتاب الإحياء و معاقبة قرائه.

و لو جاز لنا قياس الشاهد على الغائب لقلنا أيضاً أن أبو يعقوب يوسف حاكم الدولة الموحدية حين أمر بحرق كتب إبن رشد، كان يحاول إسترضاء الفقهاء من أجل أن يستجمع للدولة قواها و يوحد صفها، في مواجهة قوات ألفونس الثامن ملك قشتالة في معركة جرت عند الأرك، بينما نظام بن علي و فقهاءه من نخبة البلاد لا يزالون منذ التسعينات يغييرون برامج التعليم و يجتهدون لتجفيف ينابيع الفكر و المعرفة لنيل رضا الولايات المتحدة الأمريكية من أجل طمس الهوية العربية الإسلامية للتونسيين و تجهيلهم تحت عناوين مواجهة التطرف الديني في التسعينات و مكافحة الإرهاب في فاتحة الألفية الميلادية الثالثة.

وإذا كان يعقوب المنصور قد خص كتب فلسفة ابن رشد وحدها بقرار الحرق دون الكتب الطبية و الرياضية و الفلكية فربما يشفع له أنه استثنى الكتب العلمية من الحرق و يشفع لدولة الموحدين أيضاً أن بلاطها أجَلّ العلم و أهله و أمر بشرح أرسطوطاليس [17] و هيأ بصورة ما لإنبعاث المدرسة الرشدية اللاتينية لاحقاً التي ستنهض بدور حاسم في نهضة أوروبا و حركة تنويرها. فيما سيقوم بلاط نظام ابن عليّ بالانقضاض على الدور الريادي و المستقل الذي ظلت الجامعة التونسية تخدم من خلاله التنمية العلمية التي كانت تُعَدُ من مكتسبات المجتمع التونسي حصراً. و لقد شكلت النخبة المتحالفة مع نظام الأميّة لبن علي ضرباً من الرشدية السياسية لم يكن مضمونها يزيد عن كونه مشروعاً إستئصالياً للحركة الإسلامية بالدرجة الأولى ثم سيتعداه لاحقاً إلى ضرب التدين الفردي بما يشتمل عليه الإسلام من قيم روحية و اجتماعية ظلت لقرون تنسج للمجتمع التونسي روابطه و تمسك بتوازن مكوناته.

لكن لو تجاوزنا مثل تلك القياسات الأشعرية التي لم تعد ممكناتها العقلية تلبي حجم المشكلات الأساسية التي يعانيها الفكر السياسي اليوم، كما أنها أيضاً ممكنات لن تسمح اليوم لأحد بأكثر من إسترضاء نزوعات شخصية أو حزبية ضيقة يطَمْئنُُ بزيفها الفرقاء من خنادقهم المتقابلة إلى أن أسلحتَهم الإيديولوجية لم يُصبْها الصدأ بَعدُ. فلو تجاوزنا إذاً هذه القياسات الفارغة فستضعنا رغبة استرداد فيلسوف قرطبة كرمز، أمام تنوير خانت النخبة مقدماته بل سيضعنا استرداد فيلسوف قرطبة كرمز أمام مفارقات تجربة حداثوية قادتها الأنتليجنسيا التونسية تحت حراب أجهزة الأمن السياسي، فأجهضت مخاضات عشريات راكم التونسيون خلالها ثمار نبوغهم المدني والسياسي.

إن أولى المهمات التي كان يمكن أن تنهض تلك الأنتاليجنسيا بالاضطلاع بها في حدود صلوحياتها لو أنها قدّرت جيداً راهنية فلسفة ابن رشد اليوم و لو أنها فعلاً عزمت على أن تلعب دوراً طلائعياً من أجل إرساء مقدمات للتنوير، أنها و من مواقعها المتقدمة في مؤسسات دولة السابع من نوفمبر، كان في مستطاعها أن تجتهد لأجل توفير آلية تمويل عمليات نشر رسائل البحث و الدراسات الجامعية المعمقة و تدفع بها أولاً من رفوفها إلى سوق الكتاب لتجعلها في متناول كل قارىء، فلقد كان بإمكان النخب الجامعية التونسية أن تقود حركة للتنوير فعلاً لو أنها أسست للعقلانية آليات تمويل و مؤسسات بحثية و مراكز دراسات و منتديات حوار مستقلة و جعلت من نفسها قطباً معرفياً تنهل من أبحاثها المؤسسات الرسمية و غير الرسمية و المتخصصين من الباحثين وغير المتخصصين و طلبة الجامعة وطلبة الثانويات، و تهيأت تلك المؤسسات والمراكز و المنتديات المستقلة لتكون مرشدة لكل طالب علم من عموم القراء و المثقفين و المعلمين و أستاذة الثانويات و أساتذة الجامعات و الباحثين في علم الإجتماع و علم النفس و العلوم السياسية و القانونية و تتصدر منابر الفكر و منتديات السياسة فتكون لرجل السياسة، أكان في الحكم أم في المعارضة، مراجعاً و لتعمل على أن تُلهم المنظمات و جمعيات المجتمع المدني ما يصلح أن يقوم مقام برامج عملها و ما على أساس منه تتفاضل الأولويات الواجب الإشتغال عليها بقصد تخليص المجتمع من رسوبياته المعيقة للتطور. وهي حين تفعل ذلك فإنما لترسخ بذلك تقليداً جديداً بتعميم المعرفة العلمية و ضرب نهج الإحتكار الذي صار من أسوء عادات النخبة التونسية. و لو أن عزم تلك النخبة على دفع حركة التنوير صادقٌ لكانت شجّعت الأبحاث الأكاديمية باتجاه ما ظل مسكوت عنه من الظواهر الاجتماعية و النفسية و السياسية التي عرفها المجتمع التونسي خلال تحولاته المتعاقبة خلال العقود الخمس الأخيرة و لجعلت من الإشكاليات ذات العلاقة بالتاريخ السياسي التونسي المعاصر، خلال فترة الحماية الفرنسية و بعده، إحدى أهم همومها التاريخية و لقطعت على حزب الدولة سبيل إحتكاره لتاريخ الحركة الوطنية التونسية و لجعلت من القضايا الميدانية ذات الجذور القانونية و الحقوقية أولى مشاغلها من أجل التنمية المدنية و السياسية في تونس.

لقد روّجت تلك النخبة في حينها أن استئصال الحركة الإسلامية، يمكنه أن يؤدي إلى تنقية المناخات المتوترة التي خلقتها أجواء المنافسة السياسية يوم كانت فيها الحركة طرفاً أساسياً في الساحة، و اعتذر النظام حينها و فقهاءه لتأجيله ما وعد به من حريات بسبب انشغله بتسييج معركته مع الإسلاميين، ثم اعتذر بعد ذلك بانشغاله بالتنمية كشرط أساسي لإنجاز حياة ديمقرطية موعودة، ثم اعتذر بـأحداث 11 سبتمبر التي وفرت له مبررات جديدة لتأجيل كل شيىء غير الجاهزية الأمنية و هو اليوم بعد 18 أكتوبر2005 غير معني بتقديم الإعتذارات لأن المعارضة الوطنية التي كان يوّجه إليها خطابه في الداخل صارت، بحسبه، مطعون في وطنيتها لإستقوائها بالخارج....!! و صار يمكنه أن يلفت عناية من في الخارج ممن عبّر عن قلقه بإزاء حالة حقوق الإنسان في تونس إلى ما ترتكبه راعية تلك الحقوق و حاملة تلك القيم (الولايات المتحدة الأمريكية أساساً و الدول المتحالفة معها في حربها على العراق) من تدخلها غير المشروع في شؤون الأخرين و انتهاك حقوق دول ذات سيادة ناهيك عن الإبادة العسكرية الجماعية للمدنيين العرقيين و فضائح التعذيب في أبوغريب. و عليه فقد كان النظام التونسي يجدد خطابه كلما تجددت مبررات استمرار تعطيل الحياة السياسية الرشيدة، و كلما وفرت له الأجواء السياسية الخارجية ما يستعين به مبرراً على استمرار حالة الطوارئ الأمنية على المجتمع التونسي ( الاحتراب الداخلي في الجزائر، التنمية الاقتصادية و مشروع الشراكة الأوروبية، مكافحة الإرهاب الدولي المناهض لقيم الديمقراطية، المعارضة الوطنية التونسية بعد 18 أكتوبر و ادعائه عليها بالإستقواء بالخارج على وطنها......... و هكذا).

كان يمكن لمشاريع التنوير في تونس أن تأسس للعقلانية و العقلانيـة النقدية لو أنها كانت فعلاً طموحاً صادقاً، كما كان يمكن أن نرى في توقيت قياسي ثمار ذلك التأسيس في مؤسسات الدولة و هيآت المجتمع المدني و مكوناته. فالعقلانية التي يمكن أن تنهض بإرسائها النخبة بما هي شرط أساسي من شروط أي حركة تنويرية و بما هي أيضاً شرط من شروط الصحة لحياة أي مجتمع مدني و بما هي بالنتيجة رافعة لكل عقلانية سياسية، كان يمكن أن نرى ثمارها في فصل السلطات التشريعية و القضائية و التنفيذية، لكن حين يُمتحن التونسيون بسطو نظام ابن عليّ على السلطات الثلاثة و تُحوّل وجهتها بفعل إكراهات الأجهزة الأمنية و بمباركة تلك الأنتليجنسيا البائسة فيُنتهك دستور البلاد و تعطل مرجعيته و حين يتحول القضاء أداة لتصفية حسابات نظام ابن علي مع خصومه السياسيين من الإسلاميين و غير الإسلاميين و حين تستعين تلك النخبة بأجهزة الأمن بتخصصاتها لتصنع رأياً عاماً يسكنه الخوف و التسليم فيما ستستمر تلك الأجهزة مستعينة بالصحافة في كيل التهم الباطلة و صناعة الأفلام المسيئة لعرض و شرف الأحرار من التونسيين و التونسيات ممن لا تزال روح الممانعة فيهم تكسر الصمت و حين تتحول المؤسسات الجامعية عن وظائفها العلمية لتعيد إنتاج جيل بدون علم و لا رأي و لا خُلق و لا طموح و حين يُقطع القطر التونسي عن انتمائه العربي و الإسلامي و حين تتحول الحركة الصهيونية العالمية إلى سند أساسي للسياسات التونسية في الداخل و الخارج فإن كل السقوط الذي آلت و ستؤول إليه البلاد لن يكون له من معنى غير الرغبة المبيتة في ضرب العقلانية في تعدد تمظهراتها بما هي شرط التنوير.

لقد كانت
العقلانية النقدية هدفاً يوم أريد للجامعة التونسية و مشاغلها العلمية أن تكون غير معنية بالظواهر الاجتماعية و النفسية و السياسية و القانونية المستحدثة التي عادة ما تصاحب نمو كل مجتمع في جميع مراحله الطبيعية، و تركت مشكلاته مبهمة بغير إحاطة علمية لأصولها و منابتها و مستقبلياتها.

و كانت
العقلانية السياسية هدفاً يوم قامت الأجهزة الأمنية بالسطو على مؤسسات الدولة و بدل الفصل بين السلطات الثلاث باتت تلك السلطات في قبضة نظام الأمية السياسية و عصاباته و جيىء إلى الأحزاب الوطنية المعارضة فاُريد استئصالها(حركة النهضة الإسلامية) أو تفخيخها من الداخل(حركة الديمقراطيين الاشتراكيين) أو محاصرتها و تضيق الخناق عليها(حزب العمال الشيوعي التونسي و الحزب الديمقراطي التقدمي)...

و كانت
العقلانية العلمية هدفاً يوم اُكره المختصون على نموذج إصلاح للتعليم كانت معلومة وقتها نتائجه فكان أن آل التعليم التونسي اليوم إلى وضع كارثي لم يعد يخف على أحد شناعة نتائجه.

و بدلاً من أن نرى ما يمكن أن تستثمره تلك الأنتاليجنسيا المتحالفة مع نظام الأميّة من راهنية فلسفة ابن رشد في تطوير حياة التونسيين المعاصرة و تأسيس لمقدمات الحداثة، صارت المحنة الرشدية واقعاً تونسياً منذ تسعينات القرن الماضي إلى هذه اللحظة. فحين يُعاقب مختار اليحياوي قاضي قضاة البلاد التونسية لدفاعه عن استقلالية القضاء و المحاماة فقد عَاقـَبَ يعقوب المنصور قبله ابن رشد قاضي قضاة قرطبة. و حين يَُزَجُ بمحمد عبو لرأي أفصح عنه على رؤوس الملأ و تُحَاصَرُ أمنياً مؤسسات المجتمع المدني فقد قضى قبلها ابن رشد بضع سنين في العزلة منبوذاً لمقالات للعقل و الحكمة و الحق و الحقيقة أسس بها لغيرنا. لقد صارت محنة القاضي مختار اليحياوي و المحامي محمد عبو و محنة المجتمع المدني عامة بجمعياته و منظماته المناضلة اليوم عنواناً لمحنة العقلانية السياسية في تونس كما صارت محنة البروفسور منصف بن سالم و مائات من الجامعيين و الكتاب عنواناً لمحنة العقلانية العلمية فيها.

لقد كشفت السنون العجاف التي هَـيْمن الاستبداد فيها على مقدرات الدولة و المجتمع في تونس أن النخب الجامعية(الآداب و الفلسفة و العلوم الإنسانية و العلوم السياسية و الحقوقية..بصورة حصرية) التي إنخرطت في حزب الأفاريات [18] و تطوعت في صفوف نظام الأمّية السياسية لم تكن مسؤولة فقط عن مواقفها السياسية الخاطئة بل مسؤولة أيضاً على إجرامها في حق المجتمع التونسي و فئاته. فالدركات السحيقة التي بلغتها البلاد من الحيف السياسي و الاقتصادي و التفاهة الأخلاقية و المعرفية و الثقافية إنما تتحمل تلك النخبة مسؤولية تبريرها. فقد أبانت محنة المجتمع التونسي، إن قُرأَتْ بعقلانية تجريبية، أن نظرية استئصال الحركة الإسلامية، بوصفها مقدمة للتنوير، كانت بلاريب نظريةً لا تاريخية [19
كما أبانت ذات المحنة أن التنوير خارج الوفاق الوطني، يظل فعلا ظالما و مشروعاً لحداثة مغدورة في المقدمات و النتائج و يضع هذا التنوير في المحصلة على ذات الدرجة من التساوي للظلامية، ليس بوصفه وعياً زائفاً وحسب، بل أيضاً بصفته الترسانة النظرية للاستبداد./.




[1] في أولى سنوات التسعين من القرن الماضي شنت الدولة الأمنية في تونس حملة تمشيط حقيقية على الكتاب الإسلامي في المدن التونسية، مدينة بعد مدينة وقد رافق هذا التمشيط حملة دعاية استعانت الأجهزة الأمنية فيها بكوادر التجمع الدستوري الديمقراطي و قواعدها من أبناء الشوارع و مليشياته، الشيء الذي أثار في قلوب المواطنين الفزع والرعب وحمل الإسلاميين جميعهم على إعدام كتبهم حرقاً أو غرقاً في الأودية والبحار أو طمراً تحت التراب ومَنْ شقّ عليه إعدام مكتبته الثمينة بكتبها الفريدة أقام عليها جداراً ظلت لأكثر من عشر سنوات، لا هي ترى نور الشمس ولا العقول ترى نورها، ولم يفرج عن بعضها إلا السنين الأخيرة.لكن يجب أن نشير على سبيل المقارنة للأهداف والوسائل التي تفتتح طريق العبور إلى الحداثة المغشوشة حيث في أفريل من سنة2003 أي في الأيام الأولى من الحرب على العراق، وبحسب ما يذكر تقرير الأمم المتحدة فإن 10ملايين كتاب أحرق في بغداد،ولم يكن ذلك في واقع الأمر إلا من أجل أن يتمتع العراق بقيم الديمقراطية والحداثة.

[2] نتحدث هنا عن السادة:
محمد الشرفي وحمادي بن جاب الله وعلي الشنوفي وعبد السلام المسدي وعبد المجيد الشرفي وعبد الباقي الهرماسي وزهير الذوادي وعبد الحميد لرقش والصادق شعبان... وآخرون ونحن إذ نشير إليهم بالإسم فإننا نعلم أن أدوارهم في سياق جبهة التحالف مع النظام وحزبه في تلك المرحلة، مع أنها كانت معلنة من قبلهم ولم يواري أحد منهم حينها ما كان يضطلع به من مهمات في نطاق ذلك التحالف إلا أنه يمكننا القول أنه على مستوى الأداء، كانت الجهود بينهم متفاوتة.

[3] تم توزيع شريط:
المصير في دور السينما التونسية كما إشتغلت الدعاية له وتثمين جهود إنتاجه وتحليل معانيه البليغة في الصحف التونسية، لكونه شريط سنمائي يروي محنة إبن رشد دون أي أدنى توثيق علمي لمادته التاريخية ومراجعة لوقائعه وهولا يعتمد إلا على قراءة انطباعية ومزاج مخرجه يوسف شاهين وعلى نص سناريست فرنسي الجنسية وقد صُور الإسلام فيه مساوياً للإرهاب وإبن رشد مساوياً للعقل المضطهد.

[4] هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي المعروف بأبي حامد، ولد بمدينة طوس من خرسان في سنة 1058م، عاش في كنف أحد المتصوفين تابع تعليمه في طوس وجرجان ونيسابور حيث تتلمذ على إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وبعد موت الجويني تعرف الغزالي على الملك السلجوقي وزير الدولة ومؤسس المدرسة النظامية في بغداد والتحق بالبلاط خرج سنة478هـ ثم عينه النظّام أستاذاً في جامعة بغداد وداوم فيها على التدريس بين (484_488هـ)، خرج من بغداد وإستقر لفترة بالشام فألف فيها كتابه الأشهر إحياء علوم الدين..قضى القسم الأخير من حياته في العبادة والزهد إلى أن وافته المنية سنة( 505هـ).من أهم مؤلفاته الإحياء والمستصفى من علم الأصول، مقاصد الفلاسفة، تهافت الفلاسفة، معيار العلم، محك النظر، المنقذ من الضلال، إلجام العوام عن علم الكلام.... وفي علاقته بدولة المرابطين يمكن أن نضيف إلى ترجمته أنه حين أدرك الضعف ملوك الطوائف بالأندلس وعجزوا على حماية دويلاتهم أمام تهديدات جيوش ألفونس جاء قضاة تلك الدويلات، إلى يوسف ابن تاشفين أمير دولة المرابطين يستنجدونه ويشكون إليه عجز ملوكهم، فإستصدر من قاضي غرناطة وقاضي مالقة فتوى تطعن في أهلية أولائك الملوك وشرعية قيامهم على ممالكهم، كما طلب الفتوى أيضاً من أكثر فقهاء الشرق الإسلامي علماً و شهرة فأيدوه وكان من بين أكثرهم شهرة وقتها الإمام أبي حامد الغزالي.

[5] هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، شارح لمصنفات أرسطو، إشتهر في العالم اللاتيني باسم[AVERROES ]، وباسم [
الشارح] أيضاً وهو عالم متبحر في العلوم الشرعية والعلوم العقلية: مثل الفيزياء، والطب والفلك كما في أصول الفقه والفلسفة.

ولد بقرطبة في1126م وتوفي بمراكش في 1198م ينتمي إلى عائلة أندلسية مجيدة.كان جده فقيهاً مالكياً وقاض وإمام بجامع الأعظم بقرطبة.كما كان أباه أيضاً قاض والتراجم تأكد في مجملها على التكوين الشرعي العميق والمتوسع الذي تأهل به إبن رشد في المراحل الأولى من تحصيله.قدمه إبن طفيل إلى الأمير الموحدي
أبو يعقوب يوسف ( 1163-1184)، فكُلف بشرح مصنفات أرسطوطاليس وإجلاء ما أغمض من عباراتها. تولى القضاء في أشبيلية سنة (1169) ثم بقرطبة في(1171م)، ولما صار أبو يعقوب خليفة اتخذه لنفسه طبيباً سنة(1182) ثم تولى القضاء مجدداً في قرطبة مسقط رأسه و في منصب أبيه وجده.

[6] صنف إبن رشد كتابه
تهافت التهافت ليرد فيه على النقد الذي وجهه الغزالي لأطروحات الفلاسفة الإسلاميين ابن سينا والفارابي في كتابه تهافت الفلاسفة.

[7] من كلمة الافتتاح علي الشنوفي رئيس الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية في ملتقي إبن رشد اليوم للأيام 19_20_21مارس1995عن المجلة التونسية للدراسات الفلسفية: عدد19سنة1998.

[8] خلال حكم يعقوب المنصور(1184_1199) ظل ابن رشد يحض بالتبجيل عند الأمير لكن بين سنتي(1195_1197) نال ابن رشد غضب أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي فأبعده من القصر ونفاه إلى مدينة أليسانة اليهودية بالقرب من قرطبة والواقع أن عدة روايات تتحدث عن هذه الحادثة فمنها ما يرد الأمر إلى:أن أبي يوسف يعقوب المنصور وقف من العلوم الفقهية والكلامية والفلسفية موقفاً صارماً وهو بذلك يتراجع عن الموقف الذي إتخذه والده مع ابن رشد حين دعاه إلى شرح مصنفات أرسطو.ومن تلك الروايات أيضاً القول أن الإشاعات التي صارت بين العامة والتي تشير إلى أن أبي يوسف يعقوب المنصور يشتغل بالعلوم العقلية ، فاتجه إلى اظهار محاربته للفلسفة وأصدر أمراً بإحراق كتبها الموجودة في الخزانات ،وقد كان ذلك كما ذهب أغلب المؤرخين رغبة من الخليفة في إسترضاء الفقهاء من أجل استجماع القوة اللازمة لمواجهة النصارى في الشمال، ذلك أن الفقهاء في تلك المرحلة مثلوا قوة سياسية ضاغطة على الخليفة.

[9] من أهم مصنفات إبن رشد من غير شروحات أرسطوطاليس نذكر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد وكتاب مناهج الأدلة في عقائد الملة وتهافت التهافت وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال.

[10] الغزالي أبو الإسلاميين وابن رشد أبو العلمانيين هكذا أصّلت في تاريخ الفلسفة الإسلامية للعلمانيين، الحملة الدعائية المرفقة بالهجمة الأمنية على الإسلاميين في منتصف عشرية التسعينات من القرن الماضي، ومنحتهم بمناسبة حملة الاستئصال تلك، جذوراً لم يكونوا قبل اليوم يدّعونها لأنفسهم، ولا تمسكوا بالانتساب إليها بعد انقضاء الحملة.

[11] في الجامعة التونسية لا يرى بعض المثقفين الصغار من مريدي النخبة المتحالفة مع نظام السابع من نوفمبر، مانعاً أن يعيد كتابة مداخلته من اللغة العربية الى اللغة الفرنسية مقابل إكراميات يغدقها المركز الثقافي الفرنسي عليه، وقد يرتفع الأجر إن تعلق الأمر بتحويرات في المضمون. هذا ويشجع كل من المركز الثقافي الفرنسي والمعهد الفرنسي للتعاون( institut français de coopération) بصورة علنية كل نشاط علمي أوثقافي يُعرض باللغة الفرنسية بصورة كلية أو جزئية.

[12] أنظر الصورة في الأعلى وهي صورة تمثال إبن رشد بقرطبة اختيرت لتكون خلفية روزنامة سنة 1995 وقد كتب في أعلاها عبارة (العرب أعقل الأمم) وهي عبارة منسوبة لإبن المقفع وردت في كتاب العقد الفريد لإبن عبد ربه _ج/1.والذين أعدوا هذه الروزنامة وصمموا خلفيتها يعتقدون أن الإشتغال على توظيف رمزية ابن رشد في وقت انغلق فيه الطوق الأمني على جميع مناشط الحياة في تونس وفي أعقاب زلزال حرب الخليج الثانية وتدمير العراق وفي سياق الهرولة العربية نحو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي ومراتونات المفاوضات المنفردة تحت مظلة اتفاقية أسلو، قد يكون مفيداً ، فبنظر العروبيين والإسلاميين وكثير من الوطنيين من غير العروبيين والإسلاميين، يبدو أن إبن رشد كان يمكنه في تلك اللحظة أن يلعب أيضاً دوراً مضاداً للحلول الأمنية التي اختارت الأنظمة العربية أن تنهجها ضد الحركات الإسلامية كما يمكن لإبن رشد اليوم أن يلعب أيضاً برمزيته دوراً مضاداً للتغريب والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي ومناهضة مشاريع العولمة التي دخلت فوراً بعد حرب الخليج الثانية طور التنفيذ.وقد لخصت عبارة العرب أعقل الأمم كل المعاني والقضايا التي تمثل خطاً فاصلاً بين العلمانيين الليبراليين الجدد والذين يتموقعون على جبهة العمل العربي والإسلامي.

[13] مصنفات الغزالي المنطقية هي: معيار العلم، محك النظر، ومقدمة كتاب المستصفى من علم الأصول..

[14] المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي ج/1ـ صفحة 10

[ 15] المختصر في المنطق: لإبن رشد

[16] لما آل حكم الدولة المرابطية بعد وفاة يوسف إبن تشفين سنة (1106) إلى إبنه، عسر عليه إحكام السيطرة على أطرافها المترامية لقلة التماسك في التنظيم الداخلي للدولة، فصار مرد الأمر فيها للفقهاء الذين تنازعهم الخلاف الفقهي والمذهبي، لكن مع انتشار كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في الأندلس أثار لدى هؤلاء الفقهاء المعارضة فأصدر قضاة قرطبة فتوى اتهموا فيها الغزالي بالإبتداع والهرطقة فاُحرق كتابه في قرطبة على مرأى من الناس وفرضت عقوبة القتل على كل من يقرأه.

[ 17] كانت شروح إبن رشد لمصنفات أرسطو قد أنجزت بطلب من الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف قبل أن يصبح خليفة على البلاد.

[ 18] حزب الأفاريات هو التجمع الدستوري الديمقراطي على حد التشخيص الكلينيكي للدكتور منصف المرزقي.

[19] يكتب برهان بسيس في ختام مقاله في جريدة الصباح بتاريخ27أفريل2006 ناصحاً واضعي استراتيجيات نظام ابن علي، بعد أن ألمح إلى فشل السياسات التعليمية و الإعلامية إلى أنه "علينا فعلاً التفكير"، و الواقع أن مثل هذه النصيحة حين تأتي متأخرة بنحو خمسة عشر سنة، فإنها لا تعني أكثر من أن العقل السياسي الذي أدار سياسات الدولة كان في غيبوبة بفعل شهوة السلطة و أن النخبة التي رسمت استراتيجيات الدولة و كانت وراء النتائج الشنيعة التي أفرزها المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة على مستوى أنماط الفكر و السلوك لجيل تربى على نهجها ليست إلا نخبة ظلامية الفكر إنتهازية الأخلاق و أن العقل عند تلك النخبة لم يبلغ بَعدُ لحظة التفكير و لا التفكير عندهم بلغ لحظة الفعل..!!.و برهان بسيس الذي إعتادت السلطة أن تدفع به للواجهة الإعلامية ليحيك حجة يداري بها سوءة النظام كلما عجز النظام على الدفاع عن نفسه إنما يمنحنا بهذه الإشارة البليغة من لدنه الحجة البالغة إلى أن لحظة موت النظام وشيكة لأن وحده الذي يفكر، موجود(أنا أفكر إذن أنا موجود) و طالما أن عزائم النظام على التفكير فعلاً قد خارت فلاريب أن ساعته قد حضرت، و أقلها إحتضاره بالمعنى السياسي.

الأحد، أفريل 30، 2006

-2- حوار مع المناضل الصحفي سليم بوخذير


باسم الله الرحمان الرحيم

حاوره محمد الفاضل

في مثل تلك الملاحم التونسية التي يكابد عذاباتها شعب أنهكه الاستكبار، لن يكون الخلاص أبداً على يد بطل يوناني نصف إلاه، إذ ليس عليك أن تستهين بهمة أهلك إن خرج عليك هذا الوطن مع كل محطة من محنته برجل بشري بنصفيه، لا تتقاسم الألوهية والبشرية هويته، وإنما تُـنبته لكَ هذه الأرض من أديمها، وتكتمل فيه إنسانيته على وقع تلكم الملاحم الوطنية، محنة بعد محنة. وإن أسقطته أوجاعه، فستستنبت الأرض لذكراه شقائق النعمان ترسم للقادمين معالم طريق لا يقطع دروبها غير الأحرار.


1 | 2

القسم الثاني


على مستوى الصحافة المكتوبة، الصحافة التونسية لها تقاليدها العريقة منذ الرائد التونسي وعلى مستوى الصحافة الإلكترونية هناك عدد من المواقع التونسية الممتازة و الرائدة لكن الصحفي والإعلامي في تونس لا يزال بعيداً عن الإشتغال على الصورة برغم الأهمية العالية التي صارت تحتلها في نقل الخبر و دعم مصداقيته، و لعل توقف حركة تطور القطاع الإعلامي في هذا الاتجاه أدى إلى هجرة الكفاءات الإعلامية و ترحيلها إلى الخارج فإستفاد الإعلامي التونسي دون أن يستفيد الرأي العام التونسي.

الصورة لها معنيين: أولاً الصورة بوصفها شكلاً أو تقنية؛ فأنا أقول أنه في تونس الآن لا يجوز الحديث عن مشهد إعلامي لأنه لا وجود له أصلاً فكل ما هو موجود موالي للحكومة. فقناة حنبعل و قناة 7 هما قناتان مواليتان للحكومة و هما يشتغلان بكفاءات لا علاقة لها في الغالب بالإعلام، فأغلب المخرجين و التقنيين و الصحفيين فيهما لا يحترمون ميثاق الشرف الصحفي و هم قبل ذلك ليسوا أكفاء من الناحية المهنية.

ثانياً الصورة بوصفها ناقلة للحقيقة؛ فقد كان فعلاً لدينا هذا المشكل مع الفضائيات و الأنترنات على نحو دائم، إذ لا يرفق الخبر في العادة بصورة تأكده و تقوي فعله. فنحن نُمنع من التظاهر و من الإجتماع فكيف يسمح لنا بالتصوير؟ فعديد أجهزة التصوير الفيديو كانت تُـحطم أثناء التظاهرات من قبل رجال الأمن حتى لا توثق الأحداث بالصورة، و الحالات القليلة النادرة التي ينجح الصحفي في التقاط الصورة كنا نزود بها الإعلام في الخارج. و من جهة ثانية لا توجد في تونس مبادرات إعلامية خاصة لأن الدولة لا تسمح بذلك. و لأن إنجاز مشروع إعلامي تلفزي أو غير تلفزي يحتاج إلى ترخيص و مثل هذه التراخيص لا تُمنح إلا لرؤوس أموال موالية للنظام.

فإذاعة الموزاييك مثلاً (و أنا أسميها إذاعة الموزاـ ريق، لأنها إلتقاء الموز!!! مع الريق !!! الريق البارد حاشى السامعين، فصاحبها بلحسن الطرابلسي كان تاجر للموز ونورالدين بوطار بوليس في جريدة الشروق معروف بانتهاكاته الكبيرة لشرف المهنة الصحفية، و يساهم في هذه الإذاعة بـ الريق البارد !! لذلك فهي إذاعة اُنجزت بالإشتراك بين الموز و الريق). فهي إذاً إذاعة موالية للحكومة، ثم كيف تطلب من تاجر الموز أن ينهض بدور إعلامي راق في حين هو لا يفقه من هذا الميدان أي شيء؟ أو في حنابَغْل، كل مؤهلات عربي نصر أنه صهر ابن علي، و لاعلاقة له بالإعلام، بل مَن من مديري الصحف في تونس جاء إلى الصحافة بخبرة صحفية ؟ فكيف يمكن أن نطرح تطوير المشهد الإعلامي؟ فسعيدة العامري تنصّ بطاقة تعريفها على أن مهنتها شؤون المنزل، أصبحت مديرة جريدة منذ أن توفي زوجها كيف يمكنني كإعلامي أن أتحدث معها عن الصورة و دورها في الإعلام و هي إمرأة لا تُحسن غير الطبخ و شطف المنزل أو خياطة زر إن سقط من قميص إبنها. فمديري الصحف أََبْغَال ليس لهم علاقة بالمهنة و رؤساء التحرير في غالب الأحيان معينين، و يمكنك أن تجد بيننا بوليسية برتبة رؤساء تحرير. و قد قلت مرة خلال أيام القمة العالمية لمجتمع المعلومات في الندوة الصحفية لكوفي أنان أننا نتعرض للهرسلة من قبل رجال الأمن و أن عدداً منهم حاضرون معنا هنا في القاعة بصفة صحافيين و أشرت عليه ببعض من أعرفهم جيدا كانوا حاضرين بيننا. فأنا اُحرم من بطاقة مهنية و زملائي كذلك لطفي حجي و محمد الفراتي و سهام بن سدرين بينما تُمنح لرجل الأمن، و بالتالي لا يمكننا الحديث عن تطوير العمل الإعلامي في غياب الفضاء الإعلامي فليس لنا في الواقع فضاءات إعلامية في تونس و إنما فروع لوزارة الداخلية يسمونها صحف.


لكن الصورة تُطرح على المستوى النضالي أيضاً فكما أن أحزاب سياسية و جمعيات في المجتمع المدني تنشط دون أن تحصل على ترخيص قانوني و مثلما هناك أقلام تكتب دون أن تحصل على بطاقات مهنية فلن تعجز العاملين في الحقل الإعلامي والصحفي الحيلة من التقاط صور و مشاهد الفعل النضالي ميدانياً و لن يكون على أحد أن يعبأ بتراخيص رسمية ممن لا صفة لهم. فما قولكم في هذا الرأي ؟

لقد كان هناك محاولات من هذا القبيل، صحيح أنها لم تكن كثيفة، نظراً للرقابة الأمنية، فأنا مثلاً سجلت حديث تلفزي لفضائية معينة منذ أسبوع في هذا المنزل، هل تعلم أننا بقينا لمدة أربعة أيام نحاول التسجيل و البوليس في كل مرة يمنعنا، الهاتف مراقب في بيوتنا و في مقراتنا و مقرات المنظمات، و في مواقع عملنا توضع أجهزة لتنصت، و يكسرون الكاميرا و رغم ذلك قمنا بمحاولات، أذكرك بقناة الزيتونة إلى جانب قناة الحوار التي بثت عدة مشاهد من تونس و حركة النهضة تمكنت من تسجيل سجناء خلال التعذيب، الله أعلم كيف تمكنت من ذلك ؟ أحزاب أخرى سجلت أشرطة فيديو، فمحاولات من هذا القبيل موجودة. رغم أن الأمن يراقب مراقبة لصيقة، فهم يمنعونك حتى من قضاء شؤونك الخاصة، و قد مُنعت من مراسلة زين العابدين بن علي شخصياً، لأني لا أعتقد أنه رئيس لكوننا بكل بساطة لسنا في نظام جمهوري و إنما في نظام دكتاتوري، و قد مُنعت بالقوة من قبل رجال البوليس، فإن كان قد منعك من حقك القانوني في التراسل فكيف يسمح لك بالتصوير و أغلب الشخصيات التي يمكنها أن تغامر بالتصوير هواتفها مراقبة و يقطعون الاتصالات كلما أرادوا ذلك، و قد إفتكوا مني هاتفي الجوال بعد تصويري إياهم، و مسحوا الصور.


تجربتكم المهنية في ميدان الصحافة والتي تتمدد على طول حكم نظام السابع من نوفمبر تسمح لنا بسؤال عن رأيكم فيما لو قارنتم واقع المشهد الإعلامي بين حقبة ما قبل 1987 و بعدها.

أريد أن أشير أولاً أن والدي مناضل في الحركة الوطنية بصفاقس، شارك لمدة أربعة سنوات بالمقاومة في منطقة القصرين و أصيب خلالها بجروح جراء طلقات الرصاص، و صار لاحقا يشتغل بوزارة الفلاحة و مراسل بجريدة (La Presse) نظراً إلى أن ثقافته فرنسية، و كان يعود إلينا دائماً محملاً بعديد الصحف التي ألجأ إليها للتسلية بقراءة بعض نصوصها بصوت عال، مقلداً مذيعي نشرات الأخبار بالتلفزيون: "و علمت الآن....."

فكان ذلك يثير في عماتي و خالاتي الضحك و يرمونني بالجنون أحياناً..و يدعون والدتي لمراجعة الطبيب للنظر في سلوكي الغريب بحسبهم. و منذ السنة أولى ثانوي صرت أشتري جريدة الصباح فقد كنت مغرما بالصحافة في سن مبكرة، و أذكر أن والدي كان يأتي بجريدة الرأي و هي صحيفة محترمة أيضا و كنت مغرماً بجريدة الأيام و هي جريدة جريئة رغم أنها موالية لحزب معين وكانت تجربة نيرة في الصحافة الساخرة بتونس، أيضاً جريدة النهار التي صدرت لفترة، حتى الجرائد الأخرى كانت جيدة على المستوى الإخباري و الإثارة الصحفية و الإخراج و كانت هناك كفاءة في اللغة العربية لكن هذا المستوى إنحدر لأن الجامعة لم تعد تنتج كفاءات بمستوى ما كانت تفعل سابقاً. فكلية الصحافة تم تمييع برامجها الدراسية كما لحقت اللعنة المؤسسات الصحفية، و قامت الدولة بتعين أناس ليسوا من العاملين في الميدان الصحفي، فهم لديهم ثقافة أمنية متخصصة لكن ليس لهم أدنى إحاطة أو ثقافة صحفية. ثم الإحباط العام الذي أصاب البلد و أهله جعل من حماسة عديد الصحفيين تتراجع، و تتناقص الجرأة و يصبح الخوف على أرزاقهم التي يهدد النظام بقطعها على من يخرج على خطه. فالحملة التي شُنت ضد الإسلاميين، لم تصب الإسلاميين و حسب و إنما أنهكت كل النخب و أخافت الجميع، و هكذا انحدر الإنتاج إلى الأسفل، و لم نرى الصحوة إلا في جريدة الموقف، فتقريباً في سنة (2001) بدأت مع جريدة الموقف أشبه ما يمكن أن نسميه بعودة الروح إلى الصحافة التونسية الجيدة شكلاً و مضموناً، بكفاءاتها العالية من مثل رشيد خشانة و محمد الفراتي و محمد الحمروني و محمد القوماني، ماهر حنين، فتحي الشفي كذلك الأسرة الموسعة التي أنتمي إليها أنا و زميلي لطفي حجي و عديد الأقلام الأخرى. فلو أن للموقف تشجيعات مادية لكانت صفحاتها أكثر و اهتماماتها أكبر و هي مع كل ذلك الآن درس للصحافة، تؤكد من خلاله أن الصحافة في تونس لم يُصبها العقم بل ما زالت رغم الصعاب ثابتة، أيضاً الطريق الجديد رغم بعض تحفضاتي فإنها جريدة جيدة و محترمة من الناحية الإعلامية. كذلك الصحف التونسية الإلكترونية جريدة البلاد و خاصة جريدة الوسط أيضاً جريدة كلمة .كذلك المنبر الإعلامي اليومي من مثل تونس نيوز و تونزين وغيرها. و أنا أجد أنه علي أن أدعو حزب التكتل من أجل العمل و الحريات أن يبعث بجريدة لإكمال المشهد الإعلامي إلى جانب الموقف و الطريق الجديد. و قد دعوت السيد مصطفى بن جعفر في غير ما مناسبة أن يفكر جدياً في الأمر وسندعمها و نساندها بكل غال و نفيس حتى لا تكون هناك موقف واحدة و هذا في واقع الأمر واجبنا نحو البلد و نحو حرية الإعلام.


ما يتنكبه المشهد الإعلامي في تونس اليوم ربما دفع عدد من الأقلام التونسية إلى مقارنة الواقع الراهن للإعلام في تونس بعصره الذهبي، على حد وصفهم، خلال

الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أصدرت تقريراً بعنوان: الإعلام تحت الحصار، لكن الأصل أن أي حر في العالم لا بد أن يكون ضد الإستعمار لأنه يمارس عملية نهب منظم لثروات و مكسب الشعوب و يتعدى على حقوقهم فهو في المحصلة يساوي استبداد خارجي، فأي فرق يمكن أن يكون بين أي دكتاتورية ناشئة من الداخل و إستعمار مستبد يأتيك من الخارج، فعلى مستوى النتائج لا فرق بينهما. فأي فرق بين عصا يتعرض لها الإنسان من الداخل أو من الخارج ؟ فأن تكون مستوردة أو من إنتاج محلي، النتيجة في نهاية المطاف واحدة. فالدكتاتوريات العربية هي ناشئة من رحم الإستعمار، فحين كان إستعمار كان هناك صحف محظورة، و الآن تعيش البلاد الحالة نفسها.

فأغلب الصحف التونسية التي لم تكن تروق للمستعمر كانت محظورة لكنها بقيت في أذهان الناس و في الأرشيفات و ظلت تعكس مستوى التألق الذي بلغته النخبة النيرة في تونس كما كانت تعبر عن تطلعاتها من أجل التحرر الوطني. و هكذا فحظرها و منعها من الصدور لا يمكن أن يلغي وجودها من التاريخ و لا من وعي الناس. فقد ذهب المستعمر و بقيت الصحف في الذاكرة . و تماماً كما حدث في السابق سيعاد مستقبلاً، فسيذهب ابن علي لا محالة و يذهب معه سلطانه و تجبره و ستبقى: تونس نيوز و كلمة و الموقف.. وكل التجارب النيرة و سيقال أنه كانت هناك صحافة نيرة تقاوم الظلم و الاستبداد و لن ينتبه أحد حينها إلى أن صحفاً كانت محظورة مثلما لم ننتبه نحن إلى أن صحفاً منعت و حجبت على أيام الإستعمار الفرنسي. و ما سيبقى أن صحفاً عبرت عن حركة تحرر وطني ضد الإستعمار مثلما تعبر اليوم مع الصعاب عدداً من الصحف النيرة عن حركة التحرر الوطني من الاستبداد الداخلي ممثلة في حركة (18) أكتوبر. فالواقع الحالي لا يختلف عن ماضيه، فلا يختلف الاستبداد الداخلي عن الإستعمار القادم من الخارج، و لا تختلف الحركة التحررية ضد الإستعمار عن حركة التحرر الوطني الثانية التي إنخرط فيها أبناء ذات الشعب، فراشد بوخذير الذي كان يقاوم الإستعمار الفرنسي يجيء إبنه اليوم ليتابع نفس المد التحرري. فنفسه الشعب الذي يطالب بالحرية البارحة يطلبها اليوم.


مطلب حرية التعبير والإعلام، مطلب رفعته حركة (18) أكتوبر، و هو يشكل أحد أهم المطالب التي تجمع عليها المعارضة الوطنية و منظمات المجتمع المدني، لكن هذا ألا يحملكم مسؤولية التفكير في مشاريع إعلامية تكون قاعدة لعمل وطني يتجاوز الأفق المطلبية و يكون قادراً على مواجهة سيول الإعلام المتدفقة بفعل العولمة ؟

إن كنت تريد أن تطاع فيجب أن تطلب المستطاع، فأنت تتحدث عن بلد، حق الإجتماع فيه ممنوع و حق التنظم فيه ممنوع و هو بلد لم يتوفر فيه هذا الإعلام على المطالب الدنيا التي نرفعها. فكيف يمكن أن نلتقي جميعنا و نصرف جهودنا إلى مشاريع بهذا الحجم. ثانياً نحن نعبر بإستمرار عن مخاطر العولمة و نجتهد في حماية الصحافة التونسية من مخاطرها، فالصحافة التونسية اليوم مع المقاومة العراقية و هي أيضاً تعارض اُكذوبة الإرهاب و دعوى مكافحته في منابرها وندواتها وتواجه فضائيات الأغاني المائعة التي تحاول أن تفسد أخلاق الشباب و سياسات تخريب التعليم في تونس. لكن إنشاء مبادرة ضخمة من مثل مجلس أعلى للإتصال يستوجب حد أدنى من الحقوق و هو حق الإجتماع. فنحن نُمنع حتى من الالتقاء في المقاهي.


أخيراً، كيف ترجون للواقع الإعلامي في تونس أن يكون بعد نظام بن علي ؟

في الحقيقة لا يجوز بإعتقادي الحديث عن مرحلة ما بعد ابن علي لأنه لم ينتهي بعد، لكن لماذا أبحث عن التفاؤل في المستقبل، فواقعنا اليوم يبعث على التفاؤل، فبالرغم من وجود ابن علي فإنه لم يستطع أن يكمم الأفواه الحرة و يذبح الكلمة الشجاعة و الصادقة. فهناك صحوة متراكمة يمثلها الأحرار، سواء بقي ابن علي أو لم يبقى، ستظل في تنامي مستمر و لن يوقفها أحد. بل أنا أقول أن علينا أن ننتظر من هذه الصحوة الكثير، و إن شاء الله نعيش لذلك اليوم، لأن نظام ابن علي أسكن في أجسام مناضلي المجتمع المدني أمراضاً كثيرة بسبب الهرسلة المستمرة و التجويع و الاعتقالات و نسأل الله أن نعيش إلى اليوم الذي نشاهد فيه إعلاماً حراً في تونس. و أنا أنتهز هذه المناسبة لأعبر عن تضامني مع زميلتي هند العرفاوي فهذه الزميلة اُطردت من جريدة (La Presse) بسبب موالاتها لنقابة الصحافيين التونسيين، ومن فضائح القضاء في تونس أن هذه القضية الشُغلية و مع اعتراف صحيفة (La Presse) بطرد الزميلة هند طرداً تعسفياً فقد حكم القاضي بحفظ القضية و لم يحكم لها بالتعويض, أنا أتضامن معها و أقول أن هذه القضية وصمة عار في سجل القضاء التونسي. أيضاً أريد أن أتضامن مع الأستاذ حبيب اللوز، المناضل الحر من حركة النهضة، و قد دفع فاتورة باهضة من صحته فاليوم ستة عشر سنة ذاق فيها كل ألوان الظلم في ظروف اعتقال وحشي، هذا الرجل يَفقد اليوم بصره أو يكاد، و هو اليوم في صراع مع الموت و قد مات فيه كل شيء إلا إرادته و أتمنى أن أسمع عنه أخبار طيبة، و أدعو له بالشفاء العاجل. و أطلب أيضاً من وحش الغابة زين العابدين بن علي أن يرفع يده عن حبيب اللوز وأساله ألا يكفيك ستة عشر سنة أخذتها من سنين حياته، أخذت منه صحته و بصره ألم تُشبع بعد يا بن علي نَهم ساديتـّك (sadisme) ؟


ونحن أيضاً نسأل الله لكم العافية من كل سوء، لتتابعوا مشاركتكم قيادة حركة التحرر الوطني على الجبهة الإعلامية، أنتم وزملاؤكم أصحاب القلم الشامخ والكلمة الحر، وشكراً.



1 | 2


السبت، أفريل 29، 2006

-1- حوار مع المناضل الصحفي سليم بوخذير


باسم الله الرحمان الرحيم

حاوره محمد الفاضل


في مثل تلك الملاحم التونسية التي يكابد عذاباتها شعب أنهكه الاستكبار، لن يكون الخلاص أبداً على يد بطل يوناني نصف إلاه، إذ ليس عليك أن تستهين بهمة أهلك إن خرج عليك هذا الوطن مع كل محطة من محنته برجل بشري بنصفيه، لا تتقاسم الألوهية والبشرية هويته، وإنما تُـنبته لكَ هذه الأرض من أديمها، وتكتمل فيه إنسانيته على وقع تلكم الملاحم الوطنية، محنة بعد محنة. وإن أسقطته أوجاعه، فستستنبت الأرض لذكراه شقائق النعمان ترسم للقادمين معالم طريق لا يقطع دروبها غير الأحرار.



1 | 2




القسم الأول



السيد سليم بوخذير بلغ إضرابكم عن الطعام يومه الثالث والعشرين، وحالتكم الصحية في تدهور مستمر فهل لكم أن تنقلوا إلى المتابعين لقضيتكم ما أفادكم به الأطباء من تشخيص حالتكم الصحية.

في الأيام العشر الأخيرة عانيت من متاعب صحية كثيرة وتدهور أصاب أعضاء كثيرة في الجسم ويتلخص الوضع حالياً في ما يلي:
ارتفاع في عدد نبضات القلب منذ بضعة أيام مصحوب بوخز والكلية اليمنى تنزف دماً يظهر عند التبول ويرجع الطبيب ذلك إلى آثر الإضراب عن الطعام، أيضاً يبدو أن الكبد مصاب ويصدر عنه لون أصفر، و إلى ذلك أوجاع بالمعدة بسبب الجوع طبعاً، و لأكثر من مرة يغمى علي و أستعين بالنوم و بالإستحمام عادة لاستعادة أنفاسي واستجماع قواي. كل الأطباء طلبوا مني وقف الإضراب، الطبيب العام وطبيب القلب وطبيب الكلى، وأنا لا زلت أتمسك بمتابعة الإضراب: أولاً لكوني لا زلت أشعر بالقدرة على المواصلة حتى أني تعودت على رؤية خروج الدم عند التبول و إستوت عندي الأمور، ولن يكون وقف إضرابي عن الطعام بقرار طبي و إنما بقرار سياسي، يقضي برفع الحصار على لقمة العيش التي قطعت أسبابها بطردي من جريدة الشروق وتمكيني من جواز سفري، وفي الحد الأدنى عودتي إلى العمل، و سأواصل الإضراب تحت كل ظرف حتى و لو أدى بي ذلك إلى الموت، فأنا أفضل الموت جوعاً على العيش خاضعاً: الجوع و لا الخضوع.

سني المهنية ستة عشر عاماً، مارست خلالها مهنة الصحافة في كل المؤسسات الإعلامية التونسية تقريباً بالإذاعة والتلفزة التونسية و الصحف التونسية. قمت بالإشتغال في قطاع الثقافة والفنون و في قطاع المجتمع في التحقيقات في الشؤون الوطنية. آخر محطة كانت بجريدة الشروق. يعود سبب الإضراب إلى تدخل السلطة بعلاقتي بالجريدة التي توفي صاحبها، والقانون يمنع توريث التراخيص، فاستحوذت عليها الدولة بتعيين عبد الحميد الرياحي رئيساً للتحرير الذي صار يباشر مآرب غريبة في الجريدة وبسلوكيات لا تمت إلى ميثاق شرف المهنة الصحفية بصلة بلغت حداً صار يساومني و يهددني إذا لم أستقل من نقابة الصحفيين، و إذا لم أتوقف عن كتابة المقالات التي تنشر في مواقع بالأنترنات المعارضة لنظام الجنرال ابن علي، و يتوعدني بالطرد من الجريدة. و الواقع أن عبد الحميد الرياحي ليست له أي صلوحيات قانونية تخوله اتخاذ قرار طردي، و مع ذلك فقد تم له ذلك يوم 4 أفريل حين تدخل البوليس السياسي و طوق الجريدة و منعي من الدخول أكثر من مرة، و هذا أكبر دليل على أن الحكومة هي التي أخذت قراراً بطردي و تجويعي و تجويع من هم في كفالتي إبني وزوجتي و والدتي، و هذا بقصد ثنيي على التمسك بمبادىء أنا مقتنع بها. و لا تزال الدولة تدعي في تصريحات لوكالات الأنباء أنه لا دخل لها في طردي من جريدة الشروق. فمن أطردني من جريدة الشروق ؟ فإذا كان المدير متوفي، و لا يمكن له أن يتخذ قراراً من قبره بطردي..!! وإذا كان البوليس السياسي لا تتحكم به الحكومة و لا يتلقى أوامره منها..!! فالبوليس بوجوهه المألوفة لدى مناضلي المجتمع المدني، هو من قام بتعنيفي و منعي من الدخول إلى الجريدة بشهادة آلاف المارة و الصحفيين، إذا كان هذا البوليس لم يكن يتلقى تعليماته هذه من الحكومة فمن يوجه إليه تلك الأوامر...؟ و عبد الحميد الرياحي الذي قدم نفسه لرويترز على أنه مدير جريدة الشروق، ليس في الواقع مديراً لها و إنما هو رئيس تحرير وزميل لي وينتمي مثلي إلى طقم التحرير، و بيني و بين الجريدة عقد وقع عليه صلاح العامري المدير المسؤول بالجريدة و هو الآن المتوفي. و كل الناس يعلمون أن طردي من الشروق ليس معزولاً عن تحرشات سابقة عنه، فقد مُنعت من دخول مقاهي الأنترنات أكثر من مرة، و تعرضت للتعنيف من قبل قوات البوليس يوم 21 فيفري و أنا بصدد أداء عملي الصحفي أنا و الزميل لطفي حجي على مرآى و مسمع من آلاف المارة، كما أني منذ ثلاث سنوات ممنوع من السفر دون أن يكون قد صدر في حقي حكم قضائي، و أنا في جريدة الشروق ممنوع من حق الترقية وكما أني الآن في درجة وظيفية مضحكة لا تتناسب و شهاداتي و كفاءتي. و من جهة ملفي المهني فرغم الأقدمية بستة عشر عاماً، فأنا في مستوى وظيفي أقل مما يجب بتسعة درجات، فأنا في الدرجة (51) بينما المفروض أن أكون في درجة تزيد عن (63). ثم إني مُنعت من ممارسة حقي النقابي، و تُقطع جميع مكالماتي الهاتفية، فمن بإمكانه أن يفعل كل هذا غير الحكومة؟ وإذا كان هناك من جهة مجهولة لا يعلمها أحد معنى هذا أن هناك إنخراماً للأمن و الحكومة ذاتها مسؤولة عنه. و لأذكر أن سنة 2004 كان الاعتداء ضدي من قبل أصهار الحكومة نفسها، فحسام الطرابلسي لا أحد ينكر أنه صهر الجنرال ابن علي، فهذا الشخص يوم 8 أوت 2004 إقتحم منزلي وخربه و قبل ذلك بيوم أي 7 أوت، أمر زبانيته بضربي في ندوة صحفية بشهادة و ديع الصافي و نجوى كرم و صحفيين لبنانيين، و ذلك بسبب طرحي لسؤال بسيط خلال الندوة الصحفية قلت: من هو حسام الطرابلسي هذا، حتى يلغي حكم قضائي؟ قوانين المؤسسات التي يقوم عليها، كما يدعي، نظام ابن علي، يستوجب لإلغاء قراراً قضائياً، قرارٌ إداريُ ثان استئنافي أو تعقيبي، و الحكم النهائي الذي أصدرته المحكمة لا يمكن بجرة قلم أن يلغيه حسام الطرابلسي فبأي صفة يفعل ذلك؟ وهذا الأمر متعلق بصدقية خبر صحفي نشر بالصفحة (29) بجريدة أخبار الجمهورية التي كنتُ أشتغل بها و قد قلت يوم 5 أوت 2004 أن نجوى كرم عليها حكم بالسجن و بالتالي الحفل لا يمكنه أن يحدث، فكذبني مدير أعمالها قائلاً أنه ألغى الحكم، و قد هددني عبر الهاتف و قد سجلته في مسجل جهاز الجوال و هي تهديدات أتلقاها من أرقام متعددة، و قد مكنت عددا من الأشخاص من الإستماع إليها. و قد فوجئت يوم 8 أوت بتخريب بيتي في خزندار و هو مجاور لمنزل ابن علي المعروفة، وحين ألجأ إلى الأمن و أشتكي إليه ما حدث يرفض قبول الشكوى. بعدها وقع طردي من جريدة أخبار الجمهورية وكل القضايا التي رفعتها عبر المحامي محمد عبو ضد من اعتدوا علي رَفضت المحكمة نشرها. ثم تعرضتُ للهرسلة، و الترهيب أنا و أهلي و تعرضت للإيقاف و إطلاق سراحي أكثر من مرة بدون تهمة، ثم يقولون بعد هذا أن هناك حرية إعلام و أن حرمة الصحفي محفوظة.

في الواقع يؤسفني أن أضطر إلى مثل هذه الحلول فقد نقص وزني إلى الآن (13) كيلوغرام و أرى الدم ينزف مني، لكن نظام ابن علي لم يترك لي أي باب ألجأ إليه. فالقضاء التونسي لا يسمح لنا بنشر مثل هذه القضايا و معروف أن رئيس المجلس الأعلى للقضاء هو رئيس الدولة نفسه، و هو يتحكم في التعيينات و القضاة لا يستطيعون حماية أنفسهم، كل الناس يعلمون ماذا حدث لجمعية القضاة التونسيين و إفتكاكها بالقوة من قبل النظام الحاكم، و معاقبة القضاة غير الموالين لها. فكيف ألجأ إلى القضاء إذا كان القضاة أنفسهم قد أقروا بعدم وجود استقلالية للقضاء؟ و بمن أشتكي للقضاء، أأشتكي بمن أعطى الأوامر بمعاقبتي و هو ذاته رئيس المجلس الأعلى للقضاء ؟ ثم التحرشات التي تعرضتُ لها أثناء قمة مجتمع المعلومات، و حجب موقع الإلكتروني لقناة العربية بسبب التقارير التي كتبت في الموقع، فقد كان موقعاً غير محجوب قبل القمة و هذا ضرب لحرية التعبير، وملاحقتي و كل الصحفيين التونسيين تقوم به السلطة ذاتها. و كل ذلك يقع على مسؤولية الحكومة.


كيف تقيمون المساندة التي تلقاها قضيتكم، كماً ونوعاً، منذ إعلانكم الإضراب ؟

إحقاقاً للحق هناك مساندة كبيرة، و كل زيارة من قبل أي طرف من المجتمع المدني التونسي و الدولي كانت إلى منزلي المتواضع وسام شرف على صدري، و قد حفزتني على مواصلة الإضراب و أكدت لي أن صوت الحق لا بد أن يسمع و أن الباطل لا محالة زهوقاً و قد زارتني كل أطياف المجتمع المدني التونسي بدون استثناء، كل الأحزاب السياسية المرخص لها و غير المرخص لها بقياداتها و المنظمات التونسية: الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، هيئة 18 أكتوبر للحقوق و الحريات، خاصة نقابة الصحافيين و بالذات نقيب الصحفيين زميلي لطفي حجي، الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، المجلس الوطني للحريات، مركز تونس لاستقلال القضاء و المحاماة، الهيئة الوطنية للمحامين الذين زاروني في وفد رسمي كذلك منظمات دولية مثل هيومن رايت وتش، إفاكس، إتحاد النقابات الأمريكية، الإتحاد الدولي للصحفيين الذي ساندني بقوة و لا أنسى منظمة مراسلون بدون حدود، المنظمة العربية لحرية الصحافة، نقابة الصحفيين العرب، نقابة الصحافيين السوريين و نقابة الصحفيين اليمنيين الذين إتصلوا بي، إتحاد الصحفيين الأفارقة بالمنفى، إتحاد التونسيين بسويسرا. و العديد من وسائل الإعلام الأجنبية و مهاجرين تونسيين عديدين، زميلي زهير لطيف، صديقي جلال الماطري و بن سليمان عشرات المكالمات من باريس من الصعب إحصائها، كذلك البروفسور منصف بن سالم الذي إتصل بي العديد من المرات، العديد من الأطباء و التكتل الديمقراطي من أجل العمل و الحريات، الحزب الديمقراطي التقدمي، الزملاء من جريدة الموقف، الزملاء من قناة العربية الذين كانوا باستمرار على إتصال بي، فالحمد لله هذا يثبت أن المجتمع المدني ملتف جميعه حول قضية حرية الإعلام، و هو حق لنا يكفله الدستور، و النظام عليه أن يحترم المواثيق الدولية التي وقع عليها. و أنا اليوم مضرب عن الطعام بسبب قرار سياسي جرني إلى ذلك، و ما دام قد قرر أن يجوعني و يقطع رزقي فقد قررت أن أجوع بإرادتي.


تجربتكم المهنية تمتد تقريباً على طول فترة حكم نظام ابن علي، فكيف تقيمون الواقع الإعلامي خلال هذه الفترة ؟

عملت في الحقل الإعلامي منذ سنة (1989)، و أهم ملاحظة يمكنني قولها هنا هي أن في عديد البلدان في العالم تستمتع المجتمعات و الشعوب بما يسمى بسلطة الإعلام و نسمع كثيراً عن السلطة الرابعة، لكن في هذا البلد نحن نعيش في حالة معاكسة، فنحن ليس لنا سلطة إعلام و إنما فقط إعلام السلطة، ذلك أن تدخل السلطة في قطاع الإعلام هو تدخل مطلق، فلا توجد استقلالية من أي نوع في الساحة الإعلامية في تونس، و الحالة الفريدة الممثلة في جريدة الموقف سآتي على ذكرها فالسلطة تمسك بقبضة حديدية على كل منافذ الاستقلالية في المراحل الثلاث من العمل الإعلامي:

  1. مرحلة ما قبل إنشاء المؤسسة الإعلامية
  2. إنشاء المؤسسة الإعلامية
  3. شروعها في الإنجاز الصحفي و إيصال المعلومة و الإنتاج الإعلامي إلى المتلقـّي.

ـ فقبل إنشاء المؤسسة الإعلامية يجب عليك الحصول على وصل إعلام أو ما يسمى بالترخيص. و للحصول على وصل إعلام عليك أن تقدم ملف إلى وزارة الداخلية أي للسلطة ذاتها، و هم يدعون أن هناك مجلس إتصال و الواقع أنه لا دور له، قانون الصحافة ينص على ضرورة تقديم ملف لوزير الداخلية فيه جميع عناصر التحرير و أركان المؤسسة، إسم الجريدة أو المؤسسة و اختصاصها، على أن تحصل على وصل بالإعلام. و مجلة الصحافة تنص على أن صاحب المؤسسة الإعلامية عليه أن يطالب وزارة الداخلية بالحصول على الإعلام، ويمكن لوزارة الداخلية أن تمتنع عن تسليم وصل إعلام في حالة تقديم أي مطلب للحصول على جريدة لأي صحفي مستقل بالبلاد و لدينا عن ذلك أمثلة عديدة، و تقرير نقابة الصحفيين أورد قائمة طويلة في المؤسسات الإعلامية الصحفية أو الإلكترونية أو السمعية البصرية، فالدولة إذن هي المتسببة في عدم صدور أي عنوان جديد لا يكون موال لها.

ـ للدولة صحف موالية لها، و هي لا تمنح تراخيص إلا لأصدقائها و إن منحت تراخيص لغير أصدقائها فهي تمسك بخناقها من الناحية المادية. فكُلفت إنجاز عنوان صحفي عالية بالنظر إلى غلاء الورق و غلاء الطباعة و إنشاء المؤسسة الصحفية. فهذا الغلاء متعمد حتى يضطر مدير الجريدة إلى العمل على مقاومة الكلفة العالية بالإشهار العمومي و غير العمومي. و في هذا الإطار وضعت الدولة ما يسمى بوكالة الاتصال الخارجي و هي أسوء مثال في العالم للإتصال الخارجي، فهي لم تنشأ لغرض الإتصال الخارجي و أنا أسميها وكالة الرذيلة الصحفية لأنها لا تفعل غير التكتم على المعلومة فهي وكالة التعتيم الخارجي و الداخلي فهي تقوم منذ سنوات بشراء ذمم مدراء الصحف فتمنحهم صفحات الإشهار و في المقابل يمنحونها الصمت عن الحقائق المُرة. و هكذا نزل بالتدريج سقف الكتابة الجريئة في تونس إلى أدنى مستوى عرفته الصحافة التونسية. ففي عهد الدكتاتور السابق الحبيب بورقيبة كان على الأقل هناك بعض الجرأة النسبية. لكن الآن لم يعد بإمكان مدير الجريدة المغامرة بأي معلومة حتى و لو كانت اجتماعية فقد بلغ الأمر أن كارثة طبيعية مثل الفيضانات، تتدخل الدولة كي لا نكتب حتى عن الوفيات، فمع أن الكارثة طبيعية و حدوث كوارث طبيعية لا يدل على وجود مشاكل سياسية بالبلاد. فقد أصبحت كل الصحف كما يصفها الزميل لطفي حجي خرق بالية و أوراق فارغة تحتوي على بعض الأخبار الرياضية و أخبار الجريمة و الإثارة. و هو مشهد إعلامي لا يعكس حقيقة الكفاءات الصحفية التونسية و يؤكد هذا، كل الأقلام التونسية التي هاجرت إلى الفضائيات ووسائل الإعلام الكبرى في العالم.

من جهة ثانية ،مع أن مديري الصحف كان عليهم أن يراهنوا على القارئ، فإن نهمهم ظل يدفعهم دوماً إلى عدم المجازفة و الركون إلى طلبات السلطة ضماناً للاستزادة في الربح، إضافة إلى أن أكثر مديري الصحف بنسبة (%90) ليسوا صحفيين بالأصل، بعضهم كان مقاول بناء و بعضهم الآخر كان جنرال في الجيش، و هذا أمر لا يشرف البلد.

ـ و دائماً في إطار حديثي عن استقلالية العمل الصحفي، خلقت الدولة نوعاً من العلاقة بين الصحفي الذي هو ركن أساسي في المؤسسة الصحفية و مديري الصحف.

  1. الدولة تمتنع عن قبول أغلب القضايا الشغلية التي يرفعها الصحفيون ضد مديريهم.
  2. في قانون الشغل و في الاتفاقية الإطارية التي سهرت على إحداثها الدولة هناك العديد من المظالم في حق الصحفي ، فالدولة خلقت سيطرة من قبل مديري الصحف على الصحفيين و جعلت منهم جنودها في المؤسسة الإعلامية ليسيطروا على الصحفيين و ليسلطوا عليهم سيف الطرد و البطالة في أي لحظة تُعصى فيها أوامر المديرين، و بذلك اُوجد جيلاً من الصحفيين الصامتين ، و بدلاً من أن يكون الصحفي في مقدمة المدافعين عن حرية التعبير التي هي قضيته الأولى صار أحرص على أجره الشهري و قوته اليومي من أي شيء آخر.

كذلك يجب أن نشير أيضاً إلى أن هناك خطة كاملة لشراء الذمم تقوم بها وكالة الإتصال الخارجي مع الصحفيين الأجانب و تقوم بها أيضاً عن طريق مؤسسة الرئاسة و بالتعاون مع جمعية الصحافيين، فقد سمعنا بقرار ابن علي بتوزيع الحواسيب على الصحفيين عامة، لكن في الواقع هذا يتم لفائدة الصحافيين الذين يتمسكون بجمعية الصحافيين و يُعادون تيار الصحافيين الأحرار، كذلك فإن حي الصحافيين لا يسكن به صحافيين حقيقيين و إنما الذين أدوا أدواراً لا علاقة لها بشرف المهنة. فأغلب سكان حي الصحفيين هم ممن يوالون النظام و قدموا الوشايات في حق زملاء لهم، كسروا عصا طاعة السلطة.

فكل الأبواب إذن، أوصدت في وجه الصحفيين الأحرار، أما لو حدث و إنفلت مقال في أي جريدة من كل صمامات الأمان التي وضعتها الحكومة، و جاء المقال مخالفاً لما يشتهي النظام، تلجأ الدولة للمصادرة، فأخبار الجمهورية و الموقف في شهر فيفري الماضي قامت الدولة بمصادرتهما من الأسواق.

لكن تبقى هناك حالة وحيدة في تونس يمكن الحديث عنها وهي جريدة الموقف و هي الجريدة الوحيدة المستقلة و التي تدفع مقابل استقلالها فاتورة باهضة، فهي محرومة من الإشهار العمومي وتصادر من الأسواق بصورة مقنعة و لا يتم الإعلام عن مصادرتها، فهي تمنع في أهم المناطق و توزع في ذات الوقت في مناطق أخرى، حتى يسهل على السلطة إنكار حدوث المصادرة، كما تمنع قوى الأمن من شراء جريدة الموقف بل ويعاقب الناس على قراءتها و إن بحثت عنها في الأسواق فلن تعثر عليها بسهولة. و مع كل المحاصرة و سياسات التعجيز لتعطيلها و منعها ، لايزال هناك رجال بررة يصرون على إبقائها منبر للحقيقة على عكس ما ينشر في غيرها من صحف الموالاة التي يسميها رشيد خشانة بصحف البرافدا (Pravda) . ثم إن أهم دليل على تدخل الحكومة في الإنتاج الصحفي هي ظاهرة إنتهاك أعراض المعارضين. و لدينا على ذلك مثال الزميلة سهام بن سدرين التي بلغت في حقها حملة التشويه إلى أشنع و أقذر ما يمكن أن يصله شتم و إلى أقذر ما يمكن أن يقال في إمرأة من إنتهاك لحياتها الشخصية و شرفها. فهذه القوة و الشراسة و مستوى الإنتهاك التي بلغته هذه المقالات دليل على تدخل السلطة فليس هناك أي صحيفة في العالم يمكن أن تكتب مقالات فيها إنتهاك للأعراض و هي تعلم أن هناك قانون يعاقب على الثلب و القذف و إنتهاك الأعراض، إلا إذا كان صاحب الصحيفة لديه تطمينات على أن القضاء لن يعاقبه. و فعلاً تُـرفع القضايا لكن القضاء لا يَـنظر فيها. فالحملة كانت على شخصيات دولية و هذه الصحف مجندة، و قد رأيتُ كيف تأتي هذه المقالات جاهزة عبر الفاكس ثم يلقى بها إلى النشر و أنا أشهد للتاريخ أن هذه المقالات تكتبها الحكومة و في وزارة الداخلية من قبل محمود المهيري وعبد العزيز بن ضياء و رابح دخيل مدير الإتصالات و لا علاقة للصحافيين بها. فواقع الإعلام في تونس مؤسف و لا يشرف حضارة هذا الشعب التي تبلغ الثلاث آلاف سنة ...


منذ ما يزيد عن الخمس سنوات بقليل بدأنا نرى بعض ردود الأفعال ذات الطبيعة النضالية في المجال الصحفي أما قبل ذلك فيكاد أن يكون النضال في هذا القطاع معدوماً، فإلى ما يعود ذلك برأيكم ؟

يمكنني أن أوافق على أن هناك مد نضالي في السنوات الأخيرة، لكن أيضاً منذ التسعينات كان هناك صحفي حاول كسر عصا الطاعة وهي بادرة الزميل الصحفي القدير كمال العبيدي الذي كان يشتغل في نشرة الأنباء ثم تجرأ على إجراء حوار مع من تقدم للترشح منافساً للجنرال بن علي لرئاسة الجمهورية وهو الدكتور الفاضل المنصف المرزوقي و قام بنشره في جريدة فرنسية، فتعرض لعدد من التحرشات والهرسلة، غادر بعدها البلاد، إذن كانت هناك مبادرة ثم تطورت مع الأخوين بن بريك وسهام بن سدرين ثم ظهر لطفي حجي ثم بدأ عدد الصحافيين يتكاثر ممن هم مستعدون لكسر عصا الطاعة، و أنا أرى أن هناك صحوة رغم ما يبدو عليها من محدودية ( فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذنالله) [ آية ] فالفئة القليلة الآن تريد التمسك بميثاقشرف المهنة الصحفية و ترغب في كسر عصا الطاعة و يرفعون شعار الكلمة الشجاعة و الكلمة الحرة و الصادقة و بدأ يتزايد العدد فأحدثنا ضوضاء إيجابية في الساحة و دفعنا من أجسادنا و حريتنا و من مكاسبنا المادية والمعنوية.

ولكن ولادة نقابة الصحافيين التونسيين التي مثلت محطة هامة سنة 2004 كانت دليلاً على أن هذه الصحوة حقيقية و التحقنا نحن الصحفيين في تونس بالعمل النضالي الحقوقي مثل قطاع المحامين و قطاع الجامعيين و قطاع أساتذة الثانوي و الآن أعدادنا في تزايد و ليس في تناقص فكل يوم يرغب عدد جديد من الصحافيين في تصويب أخطائهم السابقة و هو دليل على أن هناك تطور و هذا لا يظهر في المؤسسة الصحفية لأنهم يُمنعون من ذلك، لكنهم يعبرون عن مواقفهم خارج تلك الأطر الرسمية مثل نقابة الصحافيين و شبكة الأنترنات التي تعج بعديد الأقلام الصحفية. فداخل الصحف لا يسمح لأحد، فأنا لم يسمح لي و طردت و لطفي حجي أطرد من مجلة حقائق، فتمظهر الصحوة الجديدة برزت في النقابة و في الشارع و في منظمات المجتمع المدني و في شبكة بالأنترنات و في وسائل الإعلان بالخارج ،و دخول ثورة الإتصالات في نطاق هذا الحراك خدمت هذه الحساسيات لكن وجود ظاهرة العصيان عند الصحافيين مع كونها لم تتحول إلى سياسة تحريرية تسير على نهجها الصحف و تكتب في المقالات. إلا أن ظاهرة جديدة قد بدأت وهي ظاهرة الإعتصامات داخل المؤسسات الصحفية و العرائض التي تصدر من بعض الصحافيين، ظاهرة الإضرابات عن الطعام للصحافيين، كلها تأكد أن هناك حالة من التململ النسبي الذي سيستشري إيجابياً في المراحل القادمة، كذلك من المحطات الهامة مؤتمر جمعية الصحافيين في ديسمبر 2005 و ماعبرت عنه مداخلات عدد من الصحافيين العاملين في مؤسسات صحافية موالية للحكومة و الأحداث التي جرت في ديسمبر 2004 بينت أن بداية انتعاشة لمد نضالي.

كما أن سقوط قائمة السلطة لأن أصحابها لم يقدموا أنفسهم على أنهم قائمة السلطة، كان دليل على أن الصحافيين قد بدؤوا في معاقبة السلطة على ستة عشر سنة من محاصرة للإعلام و الإعلاميين، ثم أظن أن الفضائيات و الأنترنات خلقت لدى التونسي نوعاً من الإعلام الموازي لإعلام السلطة، فوجودي في العربية نت و وجود لطفي حجي في الجزيرة نت و رشيد خشانة في الحياة و سهام بن سدرين في مجلة كلمة مع نزيهة رجيبة و عديد الصحفيين في مواقع إلكترونية أو صحف في الخارج أوجد إعلاماً موازياً ،و بالتالي ذهب زمن التكتم على الحقائق. و مع أن السلطة تجتهد في التكتم على المعلومات و الحقائق داخل مؤسساتها فإن هناك مؤسسات موازية توصل المعلومة إلى الشارع التونسي و الخارج معاً فالحكومة لا تستطيع أن تتحكم في الفضائيات، ورغم محاصرتها لشبكة الأنترنات و حجب مواقعها فإن هناك وسائل ثانية تصل عن طريقها المعلومة إلى بريدك الإلكتروني ثم ظاهرة الوساطة (les proxys) و الدخول إلى المواقع المحجوبة عن طريقها. و أنا كل ما أريد قوله الآن يصل إلى الخارج و يصل أيضاً إلى الداخل عن طريق الخارج.


[يتبع]


1 | 2

الأربعاء، أفريل 12، 2006

-3- حوار مع البروفسور المنصف بن سالم


1 | 2 | 3


القسم الثالث


باسم الله الرحمان الرحيم

أجرى الحوار: محمد الفاضل
  • طرح أحد أكبر المفكرين العرب المعاصرين والمتخصص الأول في الإسلاميات التطبيقية (l’islamologie) الدكتور محمد أركون، بصغة استغراب مسألة مثيرة في مقدمة كتابه، تاريخية الفكر العربي الإسلامي: فقد عبر عن إستغرابه من إكتساح الظاهرة الإسلامية في الجزائر بصورة شاملة للجامعات العلمية في سنوات الثمانين من القرن الماضي، و الواقع أن الأمر نفسه حدث في تونس أيضاً قبل تصفية الحركة الإسلامية لاحقاً. و أجدني أمامكم مدعو لصوغ ذات السؤال لكن بعيداً عن الإستغراب: كيف يمكن فعلاً لعقل يُـفترض أنه ديكارتيٌ أن يكون حاملاً للفكر الديني؟ وكيف يمكن أيضاً للجامعات العلمية الحديثة التي يُـفترض أن تأسس للعقلانية العلمية أن ترتد عن نفسها و تسقط كما يقال، في فكر الرجعية والظلامية؟ و ينشأ من أحشائها تيار للإسلام السياسي؟ ولأنكم تتوفرون على الأهلية العلمية العالية والمتخصصة ولأنكم أيضاً تنتسبون إلى حركة الإسلام في تونس منذ النشأة، أجدكم الأقدر على الإجابة عن هذا السؤال.
صحيح ما لفت إنتباه الدكتور محمد أركون في محله، فبعد غلق جامع الزيتونة، أين أسس أول مسجد ؟ أسس أول مسجد في كلية العلوم في جانفي سنة1972. كان التيار الماركسي في حينها هو المسيطر وكان أنصاره يتحدثون اللغة الفرنسية، حين دخلتُ الجامعة كان عمري سبعة عشر عاماً فكوّنا سنة 1970 لجنة أسميناها لجنة المحافظة على العربية في الأوساط الطلابية. أهم أعضاءها كانوا ثلاثة هم المهندس رايد مراكشي والمهندس سليم صباح وأنا والتحق بنا بعد ذلك بوعشير وكان من يدخل في اللجنة عليه أن يلتزم إذا تلفظ بلفظ فرنسي يُعاقب بدفع 5 مليمات، فإذا تحدث أحد وقال خلال حديثه مثلاً: (justement) يُـغرم بخمس مليمات وإذا قال (donc) يغرم ثانية بـ 5 مليمات وهكذا يغرم بـ5 مليمات من نطق بكلمة فرنسية خارج الدروس، فنجمع تلك المليمات كل آخر أسبوع وقد صارت بضع مائات أو ودينارات لنشتري بها كتيبات عن الوضوء والصلاة ونهديها لمن كان متعاطفاً معنا من الطلبة، هكذا كانت البداية في كلية العلوم بتونس سنة1970. و بعد عام وستة أشهر أقمنا مسجد في كلية العلوم بقسم العلوم الطبيعية والرياضيات، أخذنا غرفة صغيرة للشباب وغرفة صغيرة للبنات، وأقمنا الآذان رغم محاولاتهم منعنا، وكانت قد بدأت نشاطاتنا، فقد إلتقيت العميد فإشترط على أن لا نعلق معلقات حائطية وأن لا نرفع الآذان وسمح لنا أن نفرشه وشدد علينا أن نحرص على عدم لفت الانتباه، بعد أسبوع رفعنا الآذان وأقمنا صلاة الجمعة هذه كانت البداية وبعد أن كنا ثلاثة أشخاص صرنا في ظرف أسبوع خمسين شخصاً.

إذن، العلميين ليس عندهم (je vois, je ne vois pas) وإنما ينطلقون من يقينيات منطقية والقرآن كله منطق، القرآن علم، بأتم معنى الكلمة وأعطيك دليلاً، زميلي (Alfred GRAY) رئيس قسم في جامعة (Mary land) في أمريكا، إستدعاني إلى هناك حيث صرت بها أستاذ محاضر زائر. هذا الأستاذ درس اللغة العربية ويحاضر في أمريكا ويقول أن العلوم والحضارة تخلفت خمسة قرون بسبب هزيمة العرب لأن لغة العلم ليست الإنجليزية وليست الفرنسية وإنما هي اللغة العربية هي لغة القرآن ويعطي أدلة علمية على ذلك ثم نأتي إلى منطق القرآن، بعض الأشياء تبدو كما لو أنها خرافة بينما هي علمية 100%.

فنحن ندرس في العلوم أن المسافة بين 0 و1 هو عدد لانهائي وبحساب الرياضيات تساوي بالضبط نفس العدد المساوي للانهائي السالب واللانهائي الموجب بما فيه المسافة بين 0 و1 فحين يعلم المرىء أن هذا صحيح في علم الرياضيات وهو المعرف بـ la puissance de continue ثم يقرأ حديث الرسول عليه الصلاة والسلام (من قرأ سورة الإخلاص فكأنما قرأ القرآن كله) القرآن كله فيه سورة الإخلاص هو أيضاً، فحين يسمع الرياضي هذا الكلام لايستغرب بينما رجل الفلسفة قد يجد صعوبة في فهم ذلك.

مثال آخر نظرية النسبية العامة la théorie de la relativité générale يبرهن بالعلم أنه لو أخذنا جسم صلب وبعثنا بها بعيداً عن الأرض ونرفقها بساعة لقيس الوقت، هذه الساعة السائرة مع (Le flottant) بسرعة الضوء تسجل سنة. وحين تعود من المفروض تسجل سنة أيضاً، لكنها تسجل فعلياً سنتين، وفي الجملة يسجل العداد ثلاثة سنوات فالولد الذي ترك أخاه في الأرض سيعود ليجده قد صار عمره 100سنة, كيف يحدث هذا ؟ فنحن حينما نخرج من (Référentiel) المرجعية الذي نعيش فيه يصبح الوقت نسبي ويمكن أن تكون الثانية في الأرض مثلاً تقاس هناك بقرن أو القرن هنا يقاس بثانية لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في حادثة الإسراء والمعراج يُذكر في الحديث أنه خرج وصلى في القدس ثم أعرج به إلى السماء وشاهد الناس يزرعون ويحصدون، يعني سنة كاملة ثم عندما عاد كان لايزال فراشه دافئاً بمعنى أنه لم يغب عن فراشه إلا بضع دقائق، لكنها دقائق عاش فيها الرسول عليه الصلاة والسلام سنوات في سفره.

ثم شيء أخر حين يتحدث عن البراق يقول كان يضع حافره حيثما يبلغ بصره وقد شرحتُ هذا لطلبة التقنية فهو يضع حافره في اللانهائي الموجب (plus l’infini) وكان يقال أنه لاوجود لسرعة اللانهائي الموجب لكن سنة 1989 أقروا بوجودها، لذلك يمكن لعزرائيل أن يقبض الأرواح من عدة أماكن في نفس الوقت لأن (plus l’infini) لا يترك وقتاً بين قبض روح وأخرى.

كنت في باريس حين هاتفتُ عالم الرياضيات (Gelfand) في كاليفورنيا وكان لدي بعض الملاحظات في بحثه فخاطبني ليقول لي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنا أخوك جعفر.! هذا أكبر عالم في الرياضيات في مادة الجبر قال لي يا أخي أنت تعرف أن منطق الرياضيات هو منطق القرآن فلماذا لا أأمن به؟
  • أقلب السؤال الآن، ما الذي يجعل عالم بحجم الدكتور محمد أركون الذي درس جيداً القرآن والحديث وإطلع بصورة معمقة على الفلسفة الإسلامية أن يستغرب من أن تحتضن الجامعات العلمية في الجزائر الظاهرة الإسلامية؟
يختلف الأمر بين من يفهم القرآن من داخل العلم وبين من يقرأه من خارجه محمد أركون ينظر إلى هذا من خارج العلم فالرياضيات منطق كوني لا يمكن أن يقدح فيه أحد وربما يعود الأمر إلى المسافة التي تفصل الحقيقة عن العلوم الإنسانية وبينها وبين الرياضيات كعلم دقيق فطالب العلوم من دون أن يشعر خلال دراسته يتكون لديه منطق علمي فحين يدرس الإسلام والقرآن يجد بعفوية أن هذا يتطابق مع المنطق العلمي الذي إنبنى عليه فكره.

كان لي الشرف أن كنت مقرر في مركز (Zentralblatt für Mathematik) ببرلين وإطلعت على بحث علمي في نظرية النسبية العامة قام به إسرائيلي كان مساعد أنشتاين في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية و قبل أن يسافر أنشتاين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هذا البحث العلمي عندما اطلعتُ عليه وجدته كله آيات قرآنية بحتة وكنت أنوي مراسلة هذا العالم لأقول له أنت سرقت هذا من القرآن الكريم. لكن اكتفيت بعد ذلك بوضع ملاحظاتي على البحث ونصصت على أن البحث كان جيداً وهو فعلاً كذلك.أعطيك مثالاً:

هناك نظرية (l’univers en extension) أو الكون في اتساع، وحين نقرأ القرآن نجد قوله تعالى (والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون)( الذاريات آية47 ) وأن كل هذا الكون كان نقطة واحدة تفجرت وهي تسمى عند العلماء (Big Bang) ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيىء حي َ أفلا يؤمنون) (الأنبياء آية30)، ثم يأتي ليقول أن الكون كان غباراً ودخاناً (ثم إستوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أوكرهاً قالتا أتينا طائعين )( فصلت11 آية) كل هذه الأيات موجودة في هذا البحث وهو يثبتها فعلياً فينطلق من حالتين: يقوم بقياس في المادة وقياس في الفراغ (mesure dans le vide et mesure dans la matière) ثم بـ (Gamma و Delta) يرسم خط بياني يصور كيف يكون العالم في بوتقة محدودة ثم يبدأ في الإتساع فإذا بلغ مداه يعود لينكمش من جديد في النقطة التي إنطلق منها، يقول الله سبحانه وتعالى( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) ( الأنبياء آية 104)

في الباكستان التقيت بعدد من العلماء كلهم مسلمون فوجدتهم قائمون على بحث كبير يرغبون من خلاله دراسة ما له علاقه في القرآن بنظرية النسبية العامة لأينشتاين، قالوا لي بدأنا دراسة القرآن آية، آية، قال نحن لنا مدة عاكفون على الآية الأولى.(الحمد لله رب العالمين)( الفاتحة آية 2) قال أحدهم يقول الله عز وجل الحمد لله رب العالمين وليس العالميْن بمعنى أن الله خلق الكون فبلغ الحدود وعاد إلى النقطة الأولى، ثم عاد وإنفجر مرة أخرى وهكذا كلما يـخلُق عالم ونحن في كل هذا أحد تلك العوالم. فالإختلاف في قضية الانفجار هي فيما إذا كان هذا الإنفجار قد بدأ من نقطة موجودة أم من فراغ ،هذا هو الخلاف. فإذا كانت من نقطة كانت كثافتها تساوي واحد فاصلة ثلاثة وتسعون صفراً عن اليمين، غرام بالسنتمتر مكعب، مع العلم أن الأرض والبحار والجبال وزنها واحد وسبعة وعشرون صفر فقط في واحد وثلاثة وتسعون صفراً أي مليار ضارب مليار ضارب مليار بحجم الأرض لنجد صنتمتر مكعب، يعني لو نضع كل هذه العوالم ونعيدها مثلما كانت أول مرة قبل الانفجار لن تكون أكبر من نقطة يرسمها قلم رصاص مبري جيداً. وهو المعنى الوارد في قوله عز وجل ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيىء حي َ أفلا يؤمنون) (الأنبياء آية30).

الأية الكريمة التي تتحدث عن مواقع النجوم:( فلا أقسم بمواقع النجوم *وإنه لقسم لوتعلمون عظيم* )(الواقعة 75و76). فالقسم بالمواقع وليس بالنجوم ذاتها لماذا ؟ لأنه يستحيل عليك أن ترى النجم في مكانها، فأقرب نجم لنا البشر هي الشمس التي تبعد عنا 150ألف كيلومتر، فالشمس عندما نراها تشرق تكون في الواقع قد شرقت منذ ثمانية دقائق وحين نراها في مكان تكون هي بعيدة عن ذلك المكان بثلاثين ألف كيلومتر فنحن إذا نرى مواقعها ولانرى الشمس أيضا النجوم حينما نراها فإننا نرى حقيقة مواقعها أما هي فقد ماتت....
  • بالعودة إلى وضعيتكم الحالية أنتم الآن في إضراب عن الطعام في أيامه الأولى، ما تقييمكم للمساندات والتحركات المناصرة لقضيتكم، ولو أننا نلاحظ أنها لاتزال محدودة، لكن ما هو النداء الذي توجهونه للمنظمات والأحزاب الوطنية و الدول والشخصيات العلمية والسياسية العالمية للوقوف معكم في قضيتكم.
الاستجابة عادية لحد الساعة، وأرجو أن بعض المنظمات في مستوى ما نأمله منها، كنت أتوقع أن تكون أول زيارة لي في منزلي هي الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان،وأتمنى أن تلتحق فيما بعد بالمساندة والتدخل وتدفع بها على المستوى الإعلامي .

وهذا لاحظناه حتى لدى رجال الأمن فأحدهم كان يلح علي أن يقدم لي أي خدمة شخصية، لأنهم مقتنعون أني واقع تحت مظلمة كبيرة لكن عليهم أن ينفذوا الأوامر، وهم عبروا لي في أكثر من مناسبة عن تعاطفهم معي بل وينصحونني أحياناً أن أثبت على مواقفي ولا أضعف، الحقيقة أنها يتصرفون معي بطريقة حضارية، لكن المشكلة في صاحب القرار. هذا دليل على أن بذرة الخير لا تزال في الشعب التونسي حية.إذا كان علي حقيقة أن أرفع مطلبي الحقيقي فأطلب من السلطة أن تعتذر صراحة عن كل المظالم التي لحقتني ولحقت التونسيين. فإن لم تعتذر الآن فستضطر للاعتذار بالقوة، أنظر إلى جنوب إفريقيا،الآن أكثر الناس إجراما يتقدمون الآن للجنة الوفاق والمصالحة ويقدموا اعتذاراتهم عما اقترفت أيديهم. أنظر إلى صدام حسين أين هو الآن بعدما طغى على شعبه، أنظر إلى طغاة العالم.

كتب أنيس الشابي مدير الرقابة لدى وزارة الداخلية، عني مقالاً كنت وقتها في السجن، قال الرئيس منحه جميع حقوقه لكنه رفضها و قدم طلباً تعجـز الدولة على تحقيقه. وهو يقصد وعداً من الرئاسة يتم بموجبه حل مشكلة مجموعة كاملة من رفاقي في لجنة الإنقاذ الوطني ولا أقبل حل مشكلتي وترك بقية المجموعة من أفراد هذه اللجنة و قد إعترف هو نفسه أنه ظلمنا.
  • هل يمكنكم أن تحدثونا عن لجنة الإنقاذ الوطني؟ ومناسبة التصريح الصحفي الذي سُجنتم بسببه ؟
في الظروف الذي صار فيها بورقيبة يعين حكومة اليوم ويلغيها في الغد؛ حين بلغ بحبيب بورقيبة الإبن الحد الذي يقول في مؤتمر صحفي في فندق الأفريكا: ليس في الشعب التونسي رجل واحد وقال كلمة نابية في حق الشعب التونسي وتابع يقول لأنه رضي أن يحكمه أبي وقبل به رئيس عليه وهو الذي أصبح يتبول في سرواله. هذا إبنه الذي يقول هذا الكلام، وفي الوقت الذي خرج بورقيبة عن كل معقول، قام ثلة من أباء تونس ليوقف هذا الانحدار ولترد شرف كل التونسيين في الداخل والخارج ، قامت بمحاولة عزل بورقيبة يوم 7 نوفمبر وتم ذلك والحمد لله هذا بإيجاز .

بالنسبة للتصريح الصحفي، لما إلتقيت وزير الدفاع قال لي نحن بمكاننا أن نحاكمكم كما نشاء، قال لي أنتم الآن مثل الذبابة في قارورة أغلقناها عليكم، وستظل الذبابة في القارورة تطير إلى أن تسقط في قاعها. قلت له: بل أنتم في قاع القارورة لكن من غير أن أشبهكم بالذبابة. قلت له: وصلتكم الأبحاث أن قضية لجنة الإنقاذ الوطني فيها 600 وثيقة حررناها في 21 يوماً من 15 أكتوبر إلى 7 نوفمبر تاريخ قيام اللجنة بالتغيير لا تملكون منها وثيقة واحدة وقد هربناها جميعها إلى الخارج ونحن مستعدون أن نظهر الوثائق ونحاكمكم في الخارج، لأن المنطق يقول أننا قمنا بهذا ضد بورقيبة وهناك شخص آخر عمل ضد بورقيبة نحن توقفنا وهو واصل.. فيجب أن يحاكم هو أولاً....ثم بدأت المفاوضات مع الرئيس وإتفقنا على حل القضية وتسريح مجموعة السجناء على ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى تخرج في نوفمبر والمجموعة الثانية تخرج في جانفي والمجموعة الثالثة تخرج في مارس والمفاوضات تمت مع أحد أقرباء بن علي ومستشاره قال لي حدد المجموعات. حددت المجموعات الثلاث وكنت أخشى أن يطلقوا سراحي ويتركوا البقية في السجن فاشترطت أن تكون مجموعتي آخر مجموعة تخرج من السجن، خرجت المجوعة الأولى ثم المجموعة الثانية ثم مجموعتي جاؤوا إلي لإخراجي قلت لهم أنا أقسمت أن يكون آخر حذاء تسمعونه هو حذائي قالوا لي ثق لقد أخرجنا الجميع ولم يبقى غيرك. وقد كان اتفاقنا أن الذين خرجوا من السجن تدفع لهم جميع رواتبهم المتوقفة ويتم إعادتهم إلى وظائفهم. و وعدنا بتشكيل لجنة في وزارة الداخلية مكونة من مجموعة من عندنا ومجموعة من الداخلية ومجموعة من الرئاسة وقدمنا استمارة في طلبات تسوية القضية، وتم تسوية رواتب من كان منا بالزي إلا ستة مدنيين لم يتم تسديد مستحقاتنا. ولكن بعد ذلك بدت الأمور لا تتطور في الاتجاه السليم. و فعلاً كانت مؤشرات قد أكدت لي ذلك، وفي الأثناء جاءني صحفي جزائري فقدمت تصريحاً وضع الصحفي له عنواناً : الإتجاه الإسلامي من علمانية تونس إلى إرهاب بن علي والجريدة لاتزال تحت الطبع أبلغ أحد العملة بالمطبعة السفارة التونسية فتم إلقاء القبض علي من منزلي ولم تصدر الجريدة إلى اليوم وفي محضر الأبحاث كتبوا : ألقي عليه القبض بالمطار وهو يوزع جريدة الموقف التي تحمل تصريحاتها المسيئة .
  • لكن عملياً ما هو الحد الذي يمكن أن يرضيكم لإنهاء إضرابكم فيما لو عبرت السلطة عن الاستجابة لبعض مطالبكم ؟
حبذا لو تستجيب السلطة برفع المظالم عني لكن أنا أعتبر أن قضيتي في يد القضاء وأريد بهذا الإضراب أن يبلغ صوتي للرأي العام. فقضيتي لازالت في المحكمة الإدارية وهي تماطل منذ19عاماً وتعد بالبت فيها، وهي قضية متعلقة برواتبي وعودتي إلى العمل وجواز سفري....ناهيك عن حالة الحصار المضروبة علي وعلى منزلي وملاحقة الأمن لأبنائي....وليست مسألة طرد إبني أسامة من الجامعة مؤخراً إلا القطرة التي أفاضت الكأس.

يوم التقيت بمحمد الشرفي ليتدخل في قضيتي وقد سعيت إليه في ذلك ثلاث مرات، قلت له، أنا أقصدك لثلاثة أسباب:

أولاً لأنك رجل قانون وقضيتي قانونية: أنا توقفت أجوري بدون إذن وبدون قانون والقانون في هذا الأمر صريح فالقانون بالمجلة الابتدائية في الفصل 305 ينص على أنه إذا تم توقيف أجرة موظف بالوظيفة العمومية ولم يُحال على مجلس التأديب ولم يتم رفته تستعد إليه جميع لرواتبه خلال ثلاثة شهور لكن الآن أنا لي سنوات في الانتظار.
ثانياً لأنك كنت كاتب عام الربطة التونسية لحقوق الإنسان.
ثالثاً لأنك ماركسي وصاحب مبادئ وأنا أيضاً صاحب مبادئ ويفترض بك أن تدافع عني.

لكن السيد محمد الشرفي كان ضدي وزاد في تعطيل المسألة، فقد قام بتشكيل مجلس تأديب مزيف وقرر فيه تحويلي من صفاقس إلى تونس فرفضت أن أتحول وأحتججت عليه لأن هذا الإجراء غير قانوني لأنه جاء بعد سنة ونصف من توقيف أجوري الشهرية وبعثت إليه بالمحامين ليشرحوا له ذلك. فبعث إلي بقرار وزاري التعليم العالي والبحث العلمي يقول: قررنا رفت المنصف بن سالم من الجامعة. فأرسلت إليه ببرقية قلت له ليس لك الحق في أن ترفتني فترسيمي تم بقرار رئاسي ولا يحق لك رفتي إلا بقرار أرفع منك. وخلال تلك الفترة كنت قد أعتقلت. فذهب إلى بن علي يوم 20 ماي أي بعد إيقافي بشهر ويومين، يستصدر منه أمر رئاسي بشطب اسمي من الجامعة التونسية. و مع أن القرارات الرئاسية تنشر بالرائد الرسمي JORT فقد حرص السيد محمد الشرفي بطريقة صبيانية، خلال وجودي بالسجن، أن يبعث إلى زوجتي، قصد التشفي، رسالة بها نسخة (photocopie) عن القرار الرئاسي، مصورة عن الرائد الرسمي، وحين خرجت من السجن قدمت قضية للمحكمة الإدارية، فرفضتها لأن الإدارة بعثت بوثيقة تفيد سدادها إلي أجوري..فقدمت قضية لليونسكو وقدمت القضية بباريس في 4 ماي 1990، كان ممثل تونس باليونسكو بشير المحجوبي للأسف زميلي ونعمل بنفس الاختصاص، يحضر باليونسكو ليقدم وثيقة تثبت أنهم سددوا إلي مستحقاتي. هذه بعض المشاكل، دون الحديث عن جوازات السفر و كل المضايقات المستمرة التي أتعرض لها أنا وجميع أفراد عائلتي منذ سبعة عشر عاماً...والتي،،صارت نوادر بالنسبة لي.

في مرة كنت بالسيارة قريب من المنزل ومن الطريق المجاور قدمت سيارة أخرى فقدّمته على نفسي ومنحته الأولوية للمرور بكل أدب، رفع الرجل يده وحياني لأني تركت له الأولوية، فلاحقته الشرطة وأخذت أوراق سيارته وطفقت تسأل عما يربطني به من علاقة.!!!

مرة كنت عند المكانيكي لإصلاح سيارتي فقدم أحدهم بسيارته بحقيبة دبلوماسية ونظارات سود ينادي المكنيكي أن يستعجل بإصلاح سيارته، دون أن يعتبر أسبقيتي، فقلت له أن عليه إحترام ترتيب الدور فقال لي أنه موظف ومصالح الناس معطلة، قلت له ماذا تشتغل قال أنا متفقد أشغال عامة، فقلت له لكنك ستتسبب في تعطيل سيارتين هذه السيارة و السيارة الثانية لأمن الدولة وهم في انتظاري، فإرتعب الرجل وغادر على الفور ناسياً محفظته....
  • سمعت قصة طريفة عن نزاهتكم في المعاملة مع الطلبة في الجامعة بودي لو تروونها لنا.
جاءني مرة طالب قال لي والله يادكتورلو قيللي عليك أن تختار بين أن نقتل أباك أو المنصفبنسالملقلت لهم أقتلوا أبي وأتركوا المنصف بن سالم. فبلغ بأحد زملائي في الجامعة وهو شيوعياً حداً من الحسد دفعه إلى ان يشيع بين الطلبة أني أساعد على النجاحالطلبةالإسلاميينوأسقطالطلبة الشيوعيين. كان ذلك أول السنة الجامعية، لم أرد على الإشاعات، حتى إذا إجتاز الطلبة إمتحانات الكتابي، وضعت معلقة للطلبة أعلمهم فيها أن المتقدمين من الطلبة لامتحانات الشفاهي لهم الخيار في أن يتقدمون للإمتحان عند المنصف بن سالم أوعند الأستاذ الزميل. وقد كان الكتابي ضارب 5 والشفاهي أيضاً ضارب 5 وفي يوم الإمتحان كان أمام قاعة قسمي طابور من الطلبة ينتظر الدخول لأمتحنه فيما الزميل لم يأته أي طالب، وظل ينتظر حتى إذا يئس من أن يتقدم إليه أحد حمل أمتعته وغادر.

أحد الطلبة الشيوعيين بعد أن تقدم للشفاهي عندي، سألته لماذا لم تتقدم للأستاذ فلان ليمتحنك فأنتما من نفس العائلة الفكرية والإيديولوجية. قال لي، يادكتور أنا فعلاً لي من الإسلام والدين موقف لكن أنا مطمئن إلى أنك أبدا لن تظلمني ، ونفس الشخص إلى اليوم يحرض الطلبة ضد إبني متهماً إياه أنه إرهابي والده إرهابي أيضاً. وذهب إلى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرع صفاقس، وهوعضو بها وأعترض على إصدار بيان مساندة لإضرابي عن الطعام.
  • برفسور منصف، كيف ترون المستقبل السياسي في تونس بعد بن علي؟
أصبح نظام بن علي مرفوضاً في الغرب لذلك أحسب أنه في أيامه الأخيرة ولا أتوقع أن يطول حكمه كثيراً وأنا أتحدث عن أشهر وليس عن سنوات. وسيتم إنتقال السلطة من شخص إلى أخر دون أن يكون قد حدث تغيراً كبيراً لأن النظام سيظل هونفسه، لكن سيفتح المجال لبعض الحريات ثم سيرقب الغرب التطورات، وحجم الإسلاميين في الساحة ليحدد كيف يرسم حدود العلاقة معهم. أما حقوق الناس فلن تجبر أضرار كل الناس ولن ترد حقوق كل المظلومين. وقد يقوم النظام بهفوات قاتلة تدفع الشارع للخروج، وأنا أأكد أن النظام يمكن أن يسقط بمجرد مسيرة صغيرة، وقد رأينا حجم الإستنفار الأمني لمجرد تجمع لبضع عشرات من المناضلين، فقد امتلأت قلوب التونسيين، والأمر لا يحتاج إلا للبداية. و لو يتغير النظام بتحركات شعبية سيكون أفضل للتونسيين مما لو تترك الأمور لسبعة نوفمبر جديدة في تونس. ونرجح في الحالة الثانية أن تحدث إنتقامات و ردود أفعال بسبب المظالم القاسية التي أصابت شريحة عريضة من الشعب. و قد تستغرق هذه الحالة مدة سنتين لكن لأن التونسيون مسالمون بطبعهم ولأن المستوى الثقافي للشعب التونسي متقدم نسبياً وبفضل الانسجام الثقافي والديني الذي يوحد التونسيين فإن تلك الحالة لن تتحول إلى فوضى دائمة وإنما ستعود المياه إلى مجاريها وسينجح التونسيون في إرساء مناخ من الحريات للجميع وستكون رائدة في العالم العربي إن شاء الله .
  • سؤالي الأخير بعد إذنكم حول السجناء السياسيين كيف ترون محنتهم وماذا تقولون في وضعيتهم التي لا نرى لها من حل في المدى القريب.
هؤلاء هم رهائن ويستحيل أن يفرج عنهم بن علي جميعاً لأنه إذا كان قد أطلق سراح ما يزيد عن السبعين فقد أبقى على نحو 150 منهم رهائن ليهدد بهم الحركة الإسلامية حتى لاترفع رأسها من جديد. وإلا كيف يمكن أن نفهم حجز طالب مثل عبد الكريم الهاروني منذ 16 عشر عاماً. يروي أحدهم أنه جرت العادة أن لا يقضي أحد بالسجن أكثر من عشرسنوات حتي ولو قتل نفسا، فإن حوكم بمدى الحياة فسيتم له التخفيف والتسامح معه في كل مناسبة وطنية حتى إذا بلغ عشر سنوات في السجن أطلق سراحه. أول مرة في تاريخ تونس يتجاوز السجناء ستة عشرعاماً. قلت مرة أن الدولة التونسية غريبة في زمانها وغريبة في مكانها. فهي غريبة في الزمان لأن الأمم تقدمت وهي تتعامل مع شعوبها بطرق حضارية تنتمي لهذا العصر وهو ما لانجده في تونس. وهي غريبة عن مكانها لأن جيرانها يصلحون ذات بينهم وهي في قطيعة مع شعبها. أنظر إلى الجزائر، صعدوا الجبال وتقاتلوا ولم يسجنوا أكثر من خمس سنوات، انظر إلى المغرب فجروا في الدار البيضاء فحكموا عليهم بالإعدام ثم أصدر في حقهم عفو وأطلق سراحهم، أنظر إلى ليبيا، 1600 سجين سياسي تم إطلاق سراحهم بل إن نجل القذافي إعترف أن المحاكم لم تكن منصفة وغير قانونية وقال سيقع جبر ضرر السجناء المسرحين، أين أنت يا تونس من هذا ؟ سجناء غوانتانامو آخرهم.....ضعيف سفير الطالبان في إفغانستان أطلق سراحه، هل أن الإسلاميين في تونس أجرموا أكثر من هؤلاء. لكن سأقول إن أردنا فهم مستقبل الإسلام في تونس، فلنراجع الثلاثين سنة السابقة، من كان حينها يتحدث عن الإسلام السياسي ؟ من كان يتحدث عن الإسلام الثوري ؟ هذه خرافة، فالمركب الجامعي (le campus) تأسس في أكتوبرسنة 1970 و أول مسجد أحدثناه في الحي الجامعي بالمنزة كان في نوفمبر سنة 1970 والذين بعثوه هم الأخ صالح كركر و الأخ صالح بن عبد الله وأنا وأتينا بأخ للآذان، كان حين يؤذن ينهالون عليه بالضرب بعلب الجعة فجعلنا له ساتراً يحمي رأسه من العلب المصوبة نحوه.

هذا الإسلام الذي اعتنقناه ودعونا له واجتهدنا في تعلمه لم يكن لنا حينها شيوخ يعلموننا إياه ولا درسناه في الكلية، وكان الطلبة يتحدثون فيما بينهم باللغة الفرنسية واجتماعاتهم العامة أيضاً تقدم بالفرنسية يصعد الطالب في اجتماع عام ليقول (aujourd’hui notre cher camarade Eli Cohen a était arrêté à l’aéroport).
صعدتُ فوق المكتب كانت أول مرة أطلب فيها الكلمة في الإجتماع العام، وكان الطلبة يمسكون بي ليمنعونني من الصعود ويجذبون سروالي إلى أن تمزق وكدت أتعرى، وآخرون يصرخون:(il va parler en arabe) تماسكت وكنت قابضا على سروالي الممزق وتكلمت بالعربية مبتدأ بباسم الله الرحمان الرحيم وكنت أول من تكلم بالعربية في الإجتماعات العامة في كلية العلوم بتونس. كنت مع الشيخ عبد الفتاح مورو نذهب إلى المقاهي ندعو الناس للصلاة ونجعل على كل ثلاثة منا أمير.. هكذا كان حالة الإسلام في تونس.

و اليوم أنظر إلى تركيا الآن كانت المحكمة تعد ملفاً لحل حزب العدالة والتنمية وقبل الموعد بخمسة أيام يحصل على ثلثي الأصوت، أنظر إلى إيران وثورتها الإسلامية أنظر إلى المغرب و حزب العدالة والتنمية الإسلامي و في الجزائر إنتصار في الإنتخابات الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومواجهات مسلحة...و أخيراً حماس في فلسطين....فإذاً المستقبل للإسلام ولحركة الإسلام إن شاء الله..../

1 | 2 | 3

الثلاثاء، أفريل 11، 2006

-2- حوار مع البروفسور المنصف بن سالم


1 | 2| 3

القسم الثاني



باسم الله الرحمان الرحيم

أجرى الحوار: محمد الفاضل
  • بعد ثمانية عشر عاماً كيف تقييمون بروفسور، الواقع العلمي في تونس قبل سنة 1987 وبعدها ؟

كنت عضواً في إتحاد الفيزيائيين والرياضيين العرب وهي أكبر مؤسسة علمية في العالم العربي، كنت في نفس الوقت عضواً في لجنة أصدقاء العرب في المركز الدولي للفيزياء النظرية والتابعة للوكالة الدولية للطاقة النووية بمنظمة اليونسكو و كانت لنا مجلة تقيم البحث العلمي في العالم العربي، ففي آخر السبعينات وبداية الثمانينات كانت في المراتب الأولى على التوالي : لبنان، الأردن..كانت تونس تأتي في المرتبة العاشرة في العالم العربي على مستوى الإنتاج العلمي ورغم أن عدد سكان تونس هو عدد قليل فإن هذه المرتبة تعد مشرفة جداً خاصة وأن البحوث العلمية كانت جيدة و ترقى، بدون فخر، من الناحية النوعية إلى المرتبة الأولى. وزير الدفاع السوري السيد مصطفى أطلاس، قال لي مرة أنا دائم الحديث عنك لطلبتي وأرغب في الحصول على بعض أبحاثك لأقدمها إليهم فقد كان يفخر بالإنتاج العلمي للتونسيين. إحدى المرات كنت مع أكاديمي إيطالي فأخرجت من محفظتي ورقة الإمتحان كنت أعدها لطلبتنا فطلب الإطلاع عليها ليقارن مع ما يقدم لطلبتهم في إيطاليا، فبدى له أن مستوى الإمتحان الذي يقدم للطلبة في تونس هو أعلى من مستوى امتحانات طلبة إيطاليا من ذات السنة الجامعية. لم يقع تحطيم هذا المستوى فقط بل تم عمداً انتداب أناس بتدخلات شخصية وسياسية و عبر الإغراء المادي قصد تحطيم هذا المستوى العلمي فأغلب الذين تم انتدابهم لايستحقون التدريس بالجامعة أقولها بكل صراحة لما كنا بلجنة الإنتداب بالتعليم العالي كانت الوظائف الشاغرة أكثر من خمسين وكان عدد المترشحين لا يتجاوز العشرين، وبحسب مقاييس العرض والطلب يُفترض أن ينجح الجميع، لكننا لم نجز إلا خمسة أوسبعة مرشحين، لأننا كنا لانسمح لمن يتقدم للتدريس بالجامعة إلا لمن كان يتوفر فعلاً على الأهلية العلمية المطلوبة، حتي أنه حين دافعتُ على أحد المرشحين لأجل قبوله لأن هناك عدد كبير من الوظائف الشاغرة كان زميل لي، لازلت أذكره وهو السيد محمد عمارة، يقول لي: (مخزن مسكر ولا كرية مشومة) في ذلك الوقت كيف كنا نشتغل في الجامعة ؟ أنا شخصياً كنت أعمل بمقدار عشر أضعاف الواجب الخاص بي وزملائي الآخرين كانوا يعملون بذات القدر. أين هو هذا المستوى الآن، عندما أطلع على دروس إبني أو دفاتره للعمل المسيير أو المحاضرات، أصاب بالذهول فالتعليم هو العمود الفقري لكل أمة فمنه يخرج الأستاذ والطبيب والسياسي و غيرهم.
  • عادة لا وجود لتعليم بدون سياسة تعليمية، وإذا كان الواقع العلمي في تونس الآن بهذا المستوى مقارنة مع ماضيه، معنى هذا أن وراء هذا الواقع كانت هنا سياسة أوصلت حالة التعليم إلى ماهو عليه، ولا يعنينا بعد ذلك إن كانت تلك السياسة أرادت هذه النتيجة أن تتحقق أم لم ترد.
فعلاً التدخل السياسي واضح و جلي،خاصة في قسم المواد الأدبية، فمثلاً هناك نص لعلي الدعاجي، يدرس في السنة الخامسة ابتدائي و في السنة الثامنة إعدادي وفي السنة الثانية ثانوي. ماذا يجمع بين الثلاث مستويات في النص الواحد، في الواقع لايجمع بينها إلا السخرية من الدين فهذا النص يسخر من المؤدب الذي يعلم القرآن ويأخذ على التلاميذ الخموسية والعشورية.. من هو علي الدعاجي ؟ هو من جماعة تحت السور الذين يسكرون ويذبحون القطط ليأكلونها ويلتقطون أعقاب السجائر: وكانوا يقولون:

مصائب قوم عند قوم فوائد **وبوانتُ قوم عند قوم سواقر


وكانوا يسمون عقب السجارة الكبير( فرتطو) وإذا كان أصغر( عصفور) هذا علي الدعاجي يكرم ويوسم بوسام الإستحقاق الثقافي في عهد السابع من نوفمبر من قبل أعلى سلطة في تونس، عار على تونس أن تكرم الصعاليك والبُهيميين وتتجاهل علماءها والواقع أني لم أحضى بتكريم بأقل مما حضي به الدعاجي هذا...!!

طيب هذا التدخل السياسي في الأدبيات قد يكون لهم في ذلك مبرراتهم، لكن ما دخل السياسة في الرياضيات أوالكيمياء أوالفيزياء. أنا أسأل اللجنة المسؤولة عن وضع هذه البرامج، لوكان لهم ثقة في البرامج التي وضعوها لماذا يرسمون أبناءهم في مدرسة (Mutuelle-Ville) وليس في المدارس التونسية.

برنامج إصلاح التعليم جاء به محمد الشرفي وقد قص هونفسه قصته كيف دخل الوزارة قال: إستقبله ورفاقه، رئيس الجمهورية في القصر بصفته كاتب عام الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وكان الرئيس يتحدث عن الإرهاب والإرهابيين فقال الشرفي وهو يعترف بذلك أقترح إصلاح التعليم حتى نبعد التعليم عن الإرهاب فقال له الرئيس أنت تتكفل بذلك فاستجاب الشرفي وسمي وزيراً للتربية أساساً للتصدي لما يسمى بالإرهاب، ومضى الشرفي من غير أن يستشير أهل الاختصاص، يقرب إليه رفاقه القدامى من عائلته الفكرية. وقد يسرت السلطة كثيراً على الطلبة في التعليم العالي فصار للطالب الحق أن يرسب عدة مرات، وقللت في الابتدائي والثانوي من البرامج العلمية لفائدة المواد التثقيفية بثقافة عامة وبما يوافق ثقافة النظام فأصبح التلميذ ينهي المرحلة الثانوية وهولا يملك شيئاً من الناحية العلمية، هذه الضحالة العلمية ستتحول إلى الجامعة، وستُجبَر الجامعة على الإستجابة للتخفيف من صرامتها وتغير برامجها. كما وقع إنتداب عدد كبير من الأساتذة ليسوا بالمستوى المطلوب للتدريس بالجامعة، والآن يمكنك أن تجد في الجامعة شخص تقدم على أيامنا بلجنة الإنتدابات ورفضناه أربعة مرات لأنه غير أهل، وكنا نتندر من مجرد إفتراض دخوله الجامعة، لكنه الآن كما علمت صار من الأساتذة البارزين في الجامعة يصول ويجول كما يحلو له. إحقاقاً للحق أقول، أنه على أيام الوزير محمد مزالي، تقدم صهره إلى لجنة الإنتداب وكان حينها يدرس بصفة مؤقتة بكلية العلوم بالمنستير وكانت اللجنة منعقدة والسيد مزالي يهتف إلينا طالباً مساعدته للنجاح، لكننا رفضنا قبوله، وتكرر رفض اللجنة له ثلاث مرات، ولم ينلنا أي عقاب ولا حتي سمعنا من السيد مزالي كلمة عتاب واحدة. وأنا من كُـلفت من قبل اللجنة لإعداد تقرير كما هو عادتنا إذ نحرر تقريراً عن كل مترشح نمتحنه، وقد كتبت عنه تقريراً سلبياً. فأحكامنا كانت علمية بحتة، ولا تأخذ بعين الاعتبار المناحي الشخصية. وقد بلغ الآن إفساد التعليم دورته الكاملة من الابتدائي إلى الجامعي.
  • هناك زاوية أخرى متعلقة بشخصكم، بروفسور، وهي خلفيتكم الفكرية والسياسية، فقد تكون هي المستهدفة؟ فحين توصف هذه الخلفية دوما على أنها خلفية رجعية وظلامية، وتكون هذه الخلفية في ذات الوقت قد حازت على عدد هائل من الشهادات العلمية، وشهدت مؤسسات علمية ذات صيت دولي بأهليتكم العلمية المتخصصة، فقد تتسبب حريتكم وظهوركم تحت الأضواء العالمية في إسقاط كل الحجج التي نحتها النظام ضدكم وهو الذي لا يرغب إلا في أن تعرفوا بالظلامية والرجعية والإرهاب، فماذا تقولون في هذا الرأي ؟
أذكر كلمة السفير الألماني بتونس(walfganf tenité) ، الذي وقف إلى جانبي وقفة مشرفة و قال لي مرة: عار على ألمانيا أن تتركك في بؤسك، والسفارة في خدمتك في كل ما تطلب، وقال لي أيضا، نحن في الغرب نعادي الفكر الإسلامي، ولايعنينا الأسباب الآن، لكننا حين نسمع أن حركة إسلامية في تونس فيها رجل مثل سيادتكم فهذا يجعلنا نطمئن ويشجعنا لفتح باب الحوار معها والتصدي للتقارير التي تأتينا. أيضاً قال لي سفير كندا مرة: كنت مديراً في وزارة الخارجية الكندية وكنت أطالع عنك في التقارير العلمية الكندية وكنت أتمني أن ألتقي بك يوماً، وحالما سُميت سفيراً بتونس أتيت إليك على الفور، فأنا لم أقدم بعد أوراق اعتمادي ولازلت إلى اليوم لم ألتقي رئيس الجمهورية، وقدم إلي دفتراً وقال: يشرفني أن تكون أوراق اعتمادي بين يديكم أولاً.وكنت في السجن لما جاء إلى زيارة سجين كندي كان مرافقاً لي في الغرفة، وألح على مدير السجن أن يسمح له بتمرير بعض الحلويات إلي عن طريق السجين الكندي، وإدخال الحلويات إلى السجن ممنوع في تونس، وشدد السفير على الكندي بالقول أن الحلويات لمنصف بن سالم وليست لك.

في وزارة الداخلية قال لي مسؤول بالمصالح المختصة: أنت تريد أن تعيد تونس أربعة عشر قرن إلى الوراء، قلت له: لا أظن أن شهاداتي هذه تجعلني أعيد تونس إلى الوراء، وقال لي إن الشعب التونسي يكرهك، قلت له إذا كان الشعب يكرهني فأتركني بين الشعب فسيقتلني هو ويحسم في أمري، وأنا أقترح عليك مناظرة بسيطة إن شئت، إجعلني أقف صامتاً بشارع بورقيبة عند الساعة الضخمة و أكتبوا فقط إسمي: المنصف بن سالم وأنتم إختاروا لكم أحسن خطيب لديكم وإجعلوه في الطرف المقابل عند تمثال إبن خلدون يخطب في الناس كيفما أراد، سترون أن الناس سيختارون المنصف بن السالم، فالإنسان النظيف مع الله ومع الناس لن يتخذ الناس عنه بديلاً. فالقول أنه لو لم أكن إسلامياً لكانت الحلول يسيرة معي وسريعة قول صحيح وقد أستدعيت من السجن لمقابلة وزير الدفاع فقال لي: جاءتك مجلات علمية تملأ شاحنتين أريد أن أعرف ماذا تصنع بها؟ قلت له هي الآن عندكم، فلكم إن استطعتم أن تصنعوا بها صواريخ ودبابات..!! . قال كان بمكانك أن تكون بدرجة عميداً قلت له العميد ليس درجة.. كل من يرشحه الحزب عندكم يصبح عميداً، أنا لا رغبة لي إلا في البحث العلمي.
  • لكن كيف أمكن لهذا النظام تدجين الكوادر والنخب العلمية في تونس بصورة لا هي أثرت في السياسي وهذبته و لا هي أسهمت في العلمي ونمته بل لعبت في الغالب دور تلميع صورة النظام في المحافل العلمية والسياسية ؟
في الواقع النظام لم يترك شيئاً إلا ودجنه ثم وظفه بدءاً بالحياة الإجتماعية إلى الإقتصادية فالسياسية فالرياضية وجعل منها جميعاً مجالات لتلميع صورته. لكن ما دخل العلم والعلماء، لنقارن الأمر بزمن بورقيبة، كان من المعمول به أنه حين يتقرر تسمية أستاذ محاضر يستدعى للحضور لدى بورقيبة رفقة الوزير ويقوم بورقيبة بالتوقيع على قرار التسمية بحضور الأستاذ. ويجري بث الخبر في الإذاعة و أن رئيس الجمهورية أمضى قرار تسمية فلان بصفة أستاذ محاضر بالجامعة، لأن تسمية أستاذ تكون بقرار رئاسي. وأول تسمية أعلنها بورقيبة لأستاذ محاضر في تونس كانت تسميتي أنا، مع أني لم أحضر التوقيع لأنه فيما بلغني أن بورقيبة إطلع على تقرير يفيد أنني متدين و لا أحبه وكنتُ خطيب جمعة وكثيراً ما أنتقد بورقيبة من فوق المنبر. ومع ذلك لم يمس بمصالحي ولا بأبحاثي ولا رواتبي. فقد كان له رصيد من الثقافة، فهو محامي وربما منعته ثقافته تلك أن يتجاوز خطوطاً حمر، لكن هذا النظام تجاوز كل الخطوط الحمر. وهو نظام ضد العلم، وجاهل ومجهل. كان يمكن له لو تذاكى أن يستفيد من وجودي بالجامعة، لتحاشي مثل هذه الفضائح جراء إنتهاك شرف العلم وأهله.

كنت أدرس في كلية العلوم وحين وُضعت في السجن سمعت من نشرة الأخبار، أنه تم تعويضي بأربعة عشر أستاذ بولوني اختصاص رياضيات و وضعوا حين خرجت، لحراستي ثلاث فرق كل فرقة تحرسني ثمانية ساعات، يتبادلون النوبات: الساعة 6 ثم الساعة 2 بعد الزوال ثم الساعة 10 ليلاً. فقد كانوا يسمون عملهم هذا مهمة (mission) ويسمونني الهدف (cible). سألتهم مرة بالله عليكم، بكم تقدرون المصاريف التي تُصرف لأجل حراستي من هواتف وخلويات وأوراق وسيارات. فأجابوني: أنها لاتقل عن ثمانية ألاف دينار تونسي ونصف الألف بالشهر وقد دامت هذه الحالة ثمانية سنوات وشهرين. هذا دون الحديث عن ما يوقعونه من إرهاب في قلوب الجيران والفضائح أمام الأجانب.

جاء أمريكي لزيارتي فتم منعه وهو صحفي من ب.ب.س ،أعادوه من المطار. أمريكي آخر أيضاً إستقل سيارة أجرة، طاف حول المنزل المحاصر ثم رجع وهتف إلي من المغرب الأقصى ليعلمني أنه قدم إلي ولم يتمكن لشدة الحراسة من الوصول إلى المنزل، وأعطاني علامات عن توزع الحراسة ليأكد لي صدقه وحرصه في محاولته للزيارة.

زارني أخي مرة بشاحنته، فإستوقفه عون الأمن قصد تفتيش الشاحنة، قلت له لماذا تفتشونها قال ربما جاء إليك بكيس قمح. قلت إذا هي محاصرة من أجل تجويعي. قال والله يادكتور نحن لا ننفذ التعليمات بحذافرها، ولوفعلنا كنا أشد عليك مما نحن الآن، قلت له: بالله عليك لونفذتم التعليمات بحذافرها فكيف أعيش ؟ قال وقد بدت عليه علامات الأسف: تأكل التراب. هل يرجى من سلطة تمارس هكذا ممارسات أن يكون معها حوار؟ قد يكون الحصار المضروب علي أخف من ألاف من التونسيين الآخرين، فمع أني أواجه بمحاصرة من أعلى هرم في السلطة فقد تتكلم عني الصحف وتكتب المقالات وتتحدث عني الفضائيات كما تدافع المنظمات عني والشخصيات العلمية والدبلوماسية ورؤساء الدول من مثل شيراك الشيء الذي يوفر لي بعض الأكسيجين وهي مساندات محروم منها الكثير من التونسيين المستضعفين، فهناك من قضى في السجون التونسية إلى الآن 19عشر عاماً مثل عبد الرزاق مزقريشو، ولا أحد يتحدث عنه أو يدافع عنه. أأكد لك أن أي شخص في وزني السياسي هو الآن محكوم عليه بمدي الحياة، أنظر إلى الصادق شورو وهو من خيرة علماء الكيمياء في تونس و مشهور على مستوى عالمي، يقيم الآن في سجن برج الرومي و محكوم عليه الآن بمدى الحياة. أيضاً الدكتور أحمد الأبيض من خيرة الجراحين محكوم بعشرين سنة، توفيت زوجته و أطفاله يعانون الآن التشريد...

1 | 2| 3