الثلاثاء، أفريل 11، 2006

-2- حوار مع البروفسور المنصف بن سالم


1 | 2| 3

القسم الثاني



باسم الله الرحمان الرحيم

أجرى الحوار: محمد الفاضل
  • بعد ثمانية عشر عاماً كيف تقييمون بروفسور، الواقع العلمي في تونس قبل سنة 1987 وبعدها ؟

كنت عضواً في إتحاد الفيزيائيين والرياضيين العرب وهي أكبر مؤسسة علمية في العالم العربي، كنت في نفس الوقت عضواً في لجنة أصدقاء العرب في المركز الدولي للفيزياء النظرية والتابعة للوكالة الدولية للطاقة النووية بمنظمة اليونسكو و كانت لنا مجلة تقيم البحث العلمي في العالم العربي، ففي آخر السبعينات وبداية الثمانينات كانت في المراتب الأولى على التوالي : لبنان، الأردن..كانت تونس تأتي في المرتبة العاشرة في العالم العربي على مستوى الإنتاج العلمي ورغم أن عدد سكان تونس هو عدد قليل فإن هذه المرتبة تعد مشرفة جداً خاصة وأن البحوث العلمية كانت جيدة و ترقى، بدون فخر، من الناحية النوعية إلى المرتبة الأولى. وزير الدفاع السوري السيد مصطفى أطلاس، قال لي مرة أنا دائم الحديث عنك لطلبتي وأرغب في الحصول على بعض أبحاثك لأقدمها إليهم فقد كان يفخر بالإنتاج العلمي للتونسيين. إحدى المرات كنت مع أكاديمي إيطالي فأخرجت من محفظتي ورقة الإمتحان كنت أعدها لطلبتنا فطلب الإطلاع عليها ليقارن مع ما يقدم لطلبتهم في إيطاليا، فبدى له أن مستوى الإمتحان الذي يقدم للطلبة في تونس هو أعلى من مستوى امتحانات طلبة إيطاليا من ذات السنة الجامعية. لم يقع تحطيم هذا المستوى فقط بل تم عمداً انتداب أناس بتدخلات شخصية وسياسية و عبر الإغراء المادي قصد تحطيم هذا المستوى العلمي فأغلب الذين تم انتدابهم لايستحقون التدريس بالجامعة أقولها بكل صراحة لما كنا بلجنة الإنتداب بالتعليم العالي كانت الوظائف الشاغرة أكثر من خمسين وكان عدد المترشحين لا يتجاوز العشرين، وبحسب مقاييس العرض والطلب يُفترض أن ينجح الجميع، لكننا لم نجز إلا خمسة أوسبعة مرشحين، لأننا كنا لانسمح لمن يتقدم للتدريس بالجامعة إلا لمن كان يتوفر فعلاً على الأهلية العلمية المطلوبة، حتي أنه حين دافعتُ على أحد المرشحين لأجل قبوله لأن هناك عدد كبير من الوظائف الشاغرة كان زميل لي، لازلت أذكره وهو السيد محمد عمارة، يقول لي: (مخزن مسكر ولا كرية مشومة) في ذلك الوقت كيف كنا نشتغل في الجامعة ؟ أنا شخصياً كنت أعمل بمقدار عشر أضعاف الواجب الخاص بي وزملائي الآخرين كانوا يعملون بذات القدر. أين هو هذا المستوى الآن، عندما أطلع على دروس إبني أو دفاتره للعمل المسيير أو المحاضرات، أصاب بالذهول فالتعليم هو العمود الفقري لكل أمة فمنه يخرج الأستاذ والطبيب والسياسي و غيرهم.
  • عادة لا وجود لتعليم بدون سياسة تعليمية، وإذا كان الواقع العلمي في تونس الآن بهذا المستوى مقارنة مع ماضيه، معنى هذا أن وراء هذا الواقع كانت هنا سياسة أوصلت حالة التعليم إلى ماهو عليه، ولا يعنينا بعد ذلك إن كانت تلك السياسة أرادت هذه النتيجة أن تتحقق أم لم ترد.
فعلاً التدخل السياسي واضح و جلي،خاصة في قسم المواد الأدبية، فمثلاً هناك نص لعلي الدعاجي، يدرس في السنة الخامسة ابتدائي و في السنة الثامنة إعدادي وفي السنة الثانية ثانوي. ماذا يجمع بين الثلاث مستويات في النص الواحد، في الواقع لايجمع بينها إلا السخرية من الدين فهذا النص يسخر من المؤدب الذي يعلم القرآن ويأخذ على التلاميذ الخموسية والعشورية.. من هو علي الدعاجي ؟ هو من جماعة تحت السور الذين يسكرون ويذبحون القطط ليأكلونها ويلتقطون أعقاب السجائر: وكانوا يقولون:

مصائب قوم عند قوم فوائد **وبوانتُ قوم عند قوم سواقر


وكانوا يسمون عقب السجارة الكبير( فرتطو) وإذا كان أصغر( عصفور) هذا علي الدعاجي يكرم ويوسم بوسام الإستحقاق الثقافي في عهد السابع من نوفمبر من قبل أعلى سلطة في تونس، عار على تونس أن تكرم الصعاليك والبُهيميين وتتجاهل علماءها والواقع أني لم أحضى بتكريم بأقل مما حضي به الدعاجي هذا...!!

طيب هذا التدخل السياسي في الأدبيات قد يكون لهم في ذلك مبرراتهم، لكن ما دخل السياسة في الرياضيات أوالكيمياء أوالفيزياء. أنا أسأل اللجنة المسؤولة عن وضع هذه البرامج، لوكان لهم ثقة في البرامج التي وضعوها لماذا يرسمون أبناءهم في مدرسة (Mutuelle-Ville) وليس في المدارس التونسية.

برنامج إصلاح التعليم جاء به محمد الشرفي وقد قص هونفسه قصته كيف دخل الوزارة قال: إستقبله ورفاقه، رئيس الجمهورية في القصر بصفته كاتب عام الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وكان الرئيس يتحدث عن الإرهاب والإرهابيين فقال الشرفي وهو يعترف بذلك أقترح إصلاح التعليم حتى نبعد التعليم عن الإرهاب فقال له الرئيس أنت تتكفل بذلك فاستجاب الشرفي وسمي وزيراً للتربية أساساً للتصدي لما يسمى بالإرهاب، ومضى الشرفي من غير أن يستشير أهل الاختصاص، يقرب إليه رفاقه القدامى من عائلته الفكرية. وقد يسرت السلطة كثيراً على الطلبة في التعليم العالي فصار للطالب الحق أن يرسب عدة مرات، وقللت في الابتدائي والثانوي من البرامج العلمية لفائدة المواد التثقيفية بثقافة عامة وبما يوافق ثقافة النظام فأصبح التلميذ ينهي المرحلة الثانوية وهولا يملك شيئاً من الناحية العلمية، هذه الضحالة العلمية ستتحول إلى الجامعة، وستُجبَر الجامعة على الإستجابة للتخفيف من صرامتها وتغير برامجها. كما وقع إنتداب عدد كبير من الأساتذة ليسوا بالمستوى المطلوب للتدريس بالجامعة، والآن يمكنك أن تجد في الجامعة شخص تقدم على أيامنا بلجنة الإنتدابات ورفضناه أربعة مرات لأنه غير أهل، وكنا نتندر من مجرد إفتراض دخوله الجامعة، لكنه الآن كما علمت صار من الأساتذة البارزين في الجامعة يصول ويجول كما يحلو له. إحقاقاً للحق أقول، أنه على أيام الوزير محمد مزالي، تقدم صهره إلى لجنة الإنتداب وكان حينها يدرس بصفة مؤقتة بكلية العلوم بالمنستير وكانت اللجنة منعقدة والسيد مزالي يهتف إلينا طالباً مساعدته للنجاح، لكننا رفضنا قبوله، وتكرر رفض اللجنة له ثلاث مرات، ولم ينلنا أي عقاب ولا حتي سمعنا من السيد مزالي كلمة عتاب واحدة. وأنا من كُـلفت من قبل اللجنة لإعداد تقرير كما هو عادتنا إذ نحرر تقريراً عن كل مترشح نمتحنه، وقد كتبت عنه تقريراً سلبياً. فأحكامنا كانت علمية بحتة، ولا تأخذ بعين الاعتبار المناحي الشخصية. وقد بلغ الآن إفساد التعليم دورته الكاملة من الابتدائي إلى الجامعي.
  • هناك زاوية أخرى متعلقة بشخصكم، بروفسور، وهي خلفيتكم الفكرية والسياسية، فقد تكون هي المستهدفة؟ فحين توصف هذه الخلفية دوما على أنها خلفية رجعية وظلامية، وتكون هذه الخلفية في ذات الوقت قد حازت على عدد هائل من الشهادات العلمية، وشهدت مؤسسات علمية ذات صيت دولي بأهليتكم العلمية المتخصصة، فقد تتسبب حريتكم وظهوركم تحت الأضواء العالمية في إسقاط كل الحجج التي نحتها النظام ضدكم وهو الذي لا يرغب إلا في أن تعرفوا بالظلامية والرجعية والإرهاب، فماذا تقولون في هذا الرأي ؟
أذكر كلمة السفير الألماني بتونس(walfganf tenité) ، الذي وقف إلى جانبي وقفة مشرفة و قال لي مرة: عار على ألمانيا أن تتركك في بؤسك، والسفارة في خدمتك في كل ما تطلب، وقال لي أيضا، نحن في الغرب نعادي الفكر الإسلامي، ولايعنينا الأسباب الآن، لكننا حين نسمع أن حركة إسلامية في تونس فيها رجل مثل سيادتكم فهذا يجعلنا نطمئن ويشجعنا لفتح باب الحوار معها والتصدي للتقارير التي تأتينا. أيضاً قال لي سفير كندا مرة: كنت مديراً في وزارة الخارجية الكندية وكنت أطالع عنك في التقارير العلمية الكندية وكنت أتمني أن ألتقي بك يوماً، وحالما سُميت سفيراً بتونس أتيت إليك على الفور، فأنا لم أقدم بعد أوراق اعتمادي ولازلت إلى اليوم لم ألتقي رئيس الجمهورية، وقدم إلي دفتراً وقال: يشرفني أن تكون أوراق اعتمادي بين يديكم أولاً.وكنت في السجن لما جاء إلى زيارة سجين كندي كان مرافقاً لي في الغرفة، وألح على مدير السجن أن يسمح له بتمرير بعض الحلويات إلي عن طريق السجين الكندي، وإدخال الحلويات إلى السجن ممنوع في تونس، وشدد السفير على الكندي بالقول أن الحلويات لمنصف بن سالم وليست لك.

في وزارة الداخلية قال لي مسؤول بالمصالح المختصة: أنت تريد أن تعيد تونس أربعة عشر قرن إلى الوراء، قلت له: لا أظن أن شهاداتي هذه تجعلني أعيد تونس إلى الوراء، وقال لي إن الشعب التونسي يكرهك، قلت له إذا كان الشعب يكرهني فأتركني بين الشعب فسيقتلني هو ويحسم في أمري، وأنا أقترح عليك مناظرة بسيطة إن شئت، إجعلني أقف صامتاً بشارع بورقيبة عند الساعة الضخمة و أكتبوا فقط إسمي: المنصف بن سالم وأنتم إختاروا لكم أحسن خطيب لديكم وإجعلوه في الطرف المقابل عند تمثال إبن خلدون يخطب في الناس كيفما أراد، سترون أن الناس سيختارون المنصف بن السالم، فالإنسان النظيف مع الله ومع الناس لن يتخذ الناس عنه بديلاً. فالقول أنه لو لم أكن إسلامياً لكانت الحلول يسيرة معي وسريعة قول صحيح وقد أستدعيت من السجن لمقابلة وزير الدفاع فقال لي: جاءتك مجلات علمية تملأ شاحنتين أريد أن أعرف ماذا تصنع بها؟ قلت له هي الآن عندكم، فلكم إن استطعتم أن تصنعوا بها صواريخ ودبابات..!! . قال كان بمكانك أن تكون بدرجة عميداً قلت له العميد ليس درجة.. كل من يرشحه الحزب عندكم يصبح عميداً، أنا لا رغبة لي إلا في البحث العلمي.
  • لكن كيف أمكن لهذا النظام تدجين الكوادر والنخب العلمية في تونس بصورة لا هي أثرت في السياسي وهذبته و لا هي أسهمت في العلمي ونمته بل لعبت في الغالب دور تلميع صورة النظام في المحافل العلمية والسياسية ؟
في الواقع النظام لم يترك شيئاً إلا ودجنه ثم وظفه بدءاً بالحياة الإجتماعية إلى الإقتصادية فالسياسية فالرياضية وجعل منها جميعاً مجالات لتلميع صورته. لكن ما دخل العلم والعلماء، لنقارن الأمر بزمن بورقيبة، كان من المعمول به أنه حين يتقرر تسمية أستاذ محاضر يستدعى للحضور لدى بورقيبة رفقة الوزير ويقوم بورقيبة بالتوقيع على قرار التسمية بحضور الأستاذ. ويجري بث الخبر في الإذاعة و أن رئيس الجمهورية أمضى قرار تسمية فلان بصفة أستاذ محاضر بالجامعة، لأن تسمية أستاذ تكون بقرار رئاسي. وأول تسمية أعلنها بورقيبة لأستاذ محاضر في تونس كانت تسميتي أنا، مع أني لم أحضر التوقيع لأنه فيما بلغني أن بورقيبة إطلع على تقرير يفيد أنني متدين و لا أحبه وكنتُ خطيب جمعة وكثيراً ما أنتقد بورقيبة من فوق المنبر. ومع ذلك لم يمس بمصالحي ولا بأبحاثي ولا رواتبي. فقد كان له رصيد من الثقافة، فهو محامي وربما منعته ثقافته تلك أن يتجاوز خطوطاً حمر، لكن هذا النظام تجاوز كل الخطوط الحمر. وهو نظام ضد العلم، وجاهل ومجهل. كان يمكن له لو تذاكى أن يستفيد من وجودي بالجامعة، لتحاشي مثل هذه الفضائح جراء إنتهاك شرف العلم وأهله.

كنت أدرس في كلية العلوم وحين وُضعت في السجن سمعت من نشرة الأخبار، أنه تم تعويضي بأربعة عشر أستاذ بولوني اختصاص رياضيات و وضعوا حين خرجت، لحراستي ثلاث فرق كل فرقة تحرسني ثمانية ساعات، يتبادلون النوبات: الساعة 6 ثم الساعة 2 بعد الزوال ثم الساعة 10 ليلاً. فقد كانوا يسمون عملهم هذا مهمة (mission) ويسمونني الهدف (cible). سألتهم مرة بالله عليكم، بكم تقدرون المصاريف التي تُصرف لأجل حراستي من هواتف وخلويات وأوراق وسيارات. فأجابوني: أنها لاتقل عن ثمانية ألاف دينار تونسي ونصف الألف بالشهر وقد دامت هذه الحالة ثمانية سنوات وشهرين. هذا دون الحديث عن ما يوقعونه من إرهاب في قلوب الجيران والفضائح أمام الأجانب.

جاء أمريكي لزيارتي فتم منعه وهو صحفي من ب.ب.س ،أعادوه من المطار. أمريكي آخر أيضاً إستقل سيارة أجرة، طاف حول المنزل المحاصر ثم رجع وهتف إلي من المغرب الأقصى ليعلمني أنه قدم إلي ولم يتمكن لشدة الحراسة من الوصول إلى المنزل، وأعطاني علامات عن توزع الحراسة ليأكد لي صدقه وحرصه في محاولته للزيارة.

زارني أخي مرة بشاحنته، فإستوقفه عون الأمن قصد تفتيش الشاحنة، قلت له لماذا تفتشونها قال ربما جاء إليك بكيس قمح. قلت إذا هي محاصرة من أجل تجويعي. قال والله يادكتور نحن لا ننفذ التعليمات بحذافرها، ولوفعلنا كنا أشد عليك مما نحن الآن، قلت له: بالله عليك لونفذتم التعليمات بحذافرها فكيف أعيش ؟ قال وقد بدت عليه علامات الأسف: تأكل التراب. هل يرجى من سلطة تمارس هكذا ممارسات أن يكون معها حوار؟ قد يكون الحصار المضروب علي أخف من ألاف من التونسيين الآخرين، فمع أني أواجه بمحاصرة من أعلى هرم في السلطة فقد تتكلم عني الصحف وتكتب المقالات وتتحدث عني الفضائيات كما تدافع المنظمات عني والشخصيات العلمية والدبلوماسية ورؤساء الدول من مثل شيراك الشيء الذي يوفر لي بعض الأكسيجين وهي مساندات محروم منها الكثير من التونسيين المستضعفين، فهناك من قضى في السجون التونسية إلى الآن 19عشر عاماً مثل عبد الرزاق مزقريشو، ولا أحد يتحدث عنه أو يدافع عنه. أأكد لك أن أي شخص في وزني السياسي هو الآن محكوم عليه بمدي الحياة، أنظر إلى الصادق شورو وهو من خيرة علماء الكيمياء في تونس و مشهور على مستوى عالمي، يقيم الآن في سجن برج الرومي و محكوم عليه الآن بمدى الحياة. أيضاً الدكتور أحمد الأبيض من خيرة الجراحين محكوم بعشرين سنة، توفيت زوجته و أطفاله يعانون الآن التشريد...

1 | 2| 3

ليست هناك تعليقات: