السبت، أفريل 29، 2006

-1- حوار مع المناضل الصحفي سليم بوخذير


باسم الله الرحمان الرحيم

حاوره محمد الفاضل


في مثل تلك الملاحم التونسية التي يكابد عذاباتها شعب أنهكه الاستكبار، لن يكون الخلاص أبداً على يد بطل يوناني نصف إلاه، إذ ليس عليك أن تستهين بهمة أهلك إن خرج عليك هذا الوطن مع كل محطة من محنته برجل بشري بنصفيه، لا تتقاسم الألوهية والبشرية هويته، وإنما تُـنبته لكَ هذه الأرض من أديمها، وتكتمل فيه إنسانيته على وقع تلكم الملاحم الوطنية، محنة بعد محنة. وإن أسقطته أوجاعه، فستستنبت الأرض لذكراه شقائق النعمان ترسم للقادمين معالم طريق لا يقطع دروبها غير الأحرار.



1 | 2




القسم الأول



السيد سليم بوخذير بلغ إضرابكم عن الطعام يومه الثالث والعشرين، وحالتكم الصحية في تدهور مستمر فهل لكم أن تنقلوا إلى المتابعين لقضيتكم ما أفادكم به الأطباء من تشخيص حالتكم الصحية.

في الأيام العشر الأخيرة عانيت من متاعب صحية كثيرة وتدهور أصاب أعضاء كثيرة في الجسم ويتلخص الوضع حالياً في ما يلي:
ارتفاع في عدد نبضات القلب منذ بضعة أيام مصحوب بوخز والكلية اليمنى تنزف دماً يظهر عند التبول ويرجع الطبيب ذلك إلى آثر الإضراب عن الطعام، أيضاً يبدو أن الكبد مصاب ويصدر عنه لون أصفر، و إلى ذلك أوجاع بالمعدة بسبب الجوع طبعاً، و لأكثر من مرة يغمى علي و أستعين بالنوم و بالإستحمام عادة لاستعادة أنفاسي واستجماع قواي. كل الأطباء طلبوا مني وقف الإضراب، الطبيب العام وطبيب القلب وطبيب الكلى، وأنا لا زلت أتمسك بمتابعة الإضراب: أولاً لكوني لا زلت أشعر بالقدرة على المواصلة حتى أني تعودت على رؤية خروج الدم عند التبول و إستوت عندي الأمور، ولن يكون وقف إضرابي عن الطعام بقرار طبي و إنما بقرار سياسي، يقضي برفع الحصار على لقمة العيش التي قطعت أسبابها بطردي من جريدة الشروق وتمكيني من جواز سفري، وفي الحد الأدنى عودتي إلى العمل، و سأواصل الإضراب تحت كل ظرف حتى و لو أدى بي ذلك إلى الموت، فأنا أفضل الموت جوعاً على العيش خاضعاً: الجوع و لا الخضوع.

سني المهنية ستة عشر عاماً، مارست خلالها مهنة الصحافة في كل المؤسسات الإعلامية التونسية تقريباً بالإذاعة والتلفزة التونسية و الصحف التونسية. قمت بالإشتغال في قطاع الثقافة والفنون و في قطاع المجتمع في التحقيقات في الشؤون الوطنية. آخر محطة كانت بجريدة الشروق. يعود سبب الإضراب إلى تدخل السلطة بعلاقتي بالجريدة التي توفي صاحبها، والقانون يمنع توريث التراخيص، فاستحوذت عليها الدولة بتعيين عبد الحميد الرياحي رئيساً للتحرير الذي صار يباشر مآرب غريبة في الجريدة وبسلوكيات لا تمت إلى ميثاق شرف المهنة الصحفية بصلة بلغت حداً صار يساومني و يهددني إذا لم أستقل من نقابة الصحفيين، و إذا لم أتوقف عن كتابة المقالات التي تنشر في مواقع بالأنترنات المعارضة لنظام الجنرال ابن علي، و يتوعدني بالطرد من الجريدة. و الواقع أن عبد الحميد الرياحي ليست له أي صلوحيات قانونية تخوله اتخاذ قرار طردي، و مع ذلك فقد تم له ذلك يوم 4 أفريل حين تدخل البوليس السياسي و طوق الجريدة و منعي من الدخول أكثر من مرة، و هذا أكبر دليل على أن الحكومة هي التي أخذت قراراً بطردي و تجويعي و تجويع من هم في كفالتي إبني وزوجتي و والدتي، و هذا بقصد ثنيي على التمسك بمبادىء أنا مقتنع بها. و لا تزال الدولة تدعي في تصريحات لوكالات الأنباء أنه لا دخل لها في طردي من جريدة الشروق. فمن أطردني من جريدة الشروق ؟ فإذا كان المدير متوفي، و لا يمكن له أن يتخذ قراراً من قبره بطردي..!! وإذا كان البوليس السياسي لا تتحكم به الحكومة و لا يتلقى أوامره منها..!! فالبوليس بوجوهه المألوفة لدى مناضلي المجتمع المدني، هو من قام بتعنيفي و منعي من الدخول إلى الجريدة بشهادة آلاف المارة و الصحفيين، إذا كان هذا البوليس لم يكن يتلقى تعليماته هذه من الحكومة فمن يوجه إليه تلك الأوامر...؟ و عبد الحميد الرياحي الذي قدم نفسه لرويترز على أنه مدير جريدة الشروق، ليس في الواقع مديراً لها و إنما هو رئيس تحرير وزميل لي وينتمي مثلي إلى طقم التحرير، و بيني و بين الجريدة عقد وقع عليه صلاح العامري المدير المسؤول بالجريدة و هو الآن المتوفي. و كل الناس يعلمون أن طردي من الشروق ليس معزولاً عن تحرشات سابقة عنه، فقد مُنعت من دخول مقاهي الأنترنات أكثر من مرة، و تعرضت للتعنيف من قبل قوات البوليس يوم 21 فيفري و أنا بصدد أداء عملي الصحفي أنا و الزميل لطفي حجي على مرآى و مسمع من آلاف المارة، كما أني منذ ثلاث سنوات ممنوع من السفر دون أن يكون قد صدر في حقي حكم قضائي، و أنا في جريدة الشروق ممنوع من حق الترقية وكما أني الآن في درجة وظيفية مضحكة لا تتناسب و شهاداتي و كفاءتي. و من جهة ملفي المهني فرغم الأقدمية بستة عشر عاماً، فأنا في مستوى وظيفي أقل مما يجب بتسعة درجات، فأنا في الدرجة (51) بينما المفروض أن أكون في درجة تزيد عن (63). ثم إني مُنعت من ممارسة حقي النقابي، و تُقطع جميع مكالماتي الهاتفية، فمن بإمكانه أن يفعل كل هذا غير الحكومة؟ وإذا كان هناك من جهة مجهولة لا يعلمها أحد معنى هذا أن هناك إنخراماً للأمن و الحكومة ذاتها مسؤولة عنه. و لأذكر أن سنة 2004 كان الاعتداء ضدي من قبل أصهار الحكومة نفسها، فحسام الطرابلسي لا أحد ينكر أنه صهر الجنرال ابن علي، فهذا الشخص يوم 8 أوت 2004 إقتحم منزلي وخربه و قبل ذلك بيوم أي 7 أوت، أمر زبانيته بضربي في ندوة صحفية بشهادة و ديع الصافي و نجوى كرم و صحفيين لبنانيين، و ذلك بسبب طرحي لسؤال بسيط خلال الندوة الصحفية قلت: من هو حسام الطرابلسي هذا، حتى يلغي حكم قضائي؟ قوانين المؤسسات التي يقوم عليها، كما يدعي، نظام ابن علي، يستوجب لإلغاء قراراً قضائياً، قرارٌ إداريُ ثان استئنافي أو تعقيبي، و الحكم النهائي الذي أصدرته المحكمة لا يمكن بجرة قلم أن يلغيه حسام الطرابلسي فبأي صفة يفعل ذلك؟ وهذا الأمر متعلق بصدقية خبر صحفي نشر بالصفحة (29) بجريدة أخبار الجمهورية التي كنتُ أشتغل بها و قد قلت يوم 5 أوت 2004 أن نجوى كرم عليها حكم بالسجن و بالتالي الحفل لا يمكنه أن يحدث، فكذبني مدير أعمالها قائلاً أنه ألغى الحكم، و قد هددني عبر الهاتف و قد سجلته في مسجل جهاز الجوال و هي تهديدات أتلقاها من أرقام متعددة، و قد مكنت عددا من الأشخاص من الإستماع إليها. و قد فوجئت يوم 8 أوت بتخريب بيتي في خزندار و هو مجاور لمنزل ابن علي المعروفة، وحين ألجأ إلى الأمن و أشتكي إليه ما حدث يرفض قبول الشكوى. بعدها وقع طردي من جريدة أخبار الجمهورية وكل القضايا التي رفعتها عبر المحامي محمد عبو ضد من اعتدوا علي رَفضت المحكمة نشرها. ثم تعرضتُ للهرسلة، و الترهيب أنا و أهلي و تعرضت للإيقاف و إطلاق سراحي أكثر من مرة بدون تهمة، ثم يقولون بعد هذا أن هناك حرية إعلام و أن حرمة الصحفي محفوظة.

في الواقع يؤسفني أن أضطر إلى مثل هذه الحلول فقد نقص وزني إلى الآن (13) كيلوغرام و أرى الدم ينزف مني، لكن نظام ابن علي لم يترك لي أي باب ألجأ إليه. فالقضاء التونسي لا يسمح لنا بنشر مثل هذه القضايا و معروف أن رئيس المجلس الأعلى للقضاء هو رئيس الدولة نفسه، و هو يتحكم في التعيينات و القضاة لا يستطيعون حماية أنفسهم، كل الناس يعلمون ماذا حدث لجمعية القضاة التونسيين و إفتكاكها بالقوة من قبل النظام الحاكم، و معاقبة القضاة غير الموالين لها. فكيف ألجأ إلى القضاء إذا كان القضاة أنفسهم قد أقروا بعدم وجود استقلالية للقضاء؟ و بمن أشتكي للقضاء، أأشتكي بمن أعطى الأوامر بمعاقبتي و هو ذاته رئيس المجلس الأعلى للقضاء ؟ ثم التحرشات التي تعرضتُ لها أثناء قمة مجتمع المعلومات، و حجب موقع الإلكتروني لقناة العربية بسبب التقارير التي كتبت في الموقع، فقد كان موقعاً غير محجوب قبل القمة و هذا ضرب لحرية التعبير، وملاحقتي و كل الصحفيين التونسيين تقوم به السلطة ذاتها. و كل ذلك يقع على مسؤولية الحكومة.


كيف تقيمون المساندة التي تلقاها قضيتكم، كماً ونوعاً، منذ إعلانكم الإضراب ؟

إحقاقاً للحق هناك مساندة كبيرة، و كل زيارة من قبل أي طرف من المجتمع المدني التونسي و الدولي كانت إلى منزلي المتواضع وسام شرف على صدري، و قد حفزتني على مواصلة الإضراب و أكدت لي أن صوت الحق لا بد أن يسمع و أن الباطل لا محالة زهوقاً و قد زارتني كل أطياف المجتمع المدني التونسي بدون استثناء، كل الأحزاب السياسية المرخص لها و غير المرخص لها بقياداتها و المنظمات التونسية: الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، هيئة 18 أكتوبر للحقوق و الحريات، خاصة نقابة الصحافيين و بالذات نقيب الصحفيين زميلي لطفي حجي، الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، المجلس الوطني للحريات، مركز تونس لاستقلال القضاء و المحاماة، الهيئة الوطنية للمحامين الذين زاروني في وفد رسمي كذلك منظمات دولية مثل هيومن رايت وتش، إفاكس، إتحاد النقابات الأمريكية، الإتحاد الدولي للصحفيين الذي ساندني بقوة و لا أنسى منظمة مراسلون بدون حدود، المنظمة العربية لحرية الصحافة، نقابة الصحفيين العرب، نقابة الصحافيين السوريين و نقابة الصحفيين اليمنيين الذين إتصلوا بي، إتحاد الصحفيين الأفارقة بالمنفى، إتحاد التونسيين بسويسرا. و العديد من وسائل الإعلام الأجنبية و مهاجرين تونسيين عديدين، زميلي زهير لطيف، صديقي جلال الماطري و بن سليمان عشرات المكالمات من باريس من الصعب إحصائها، كذلك البروفسور منصف بن سالم الذي إتصل بي العديد من المرات، العديد من الأطباء و التكتل الديمقراطي من أجل العمل و الحريات، الحزب الديمقراطي التقدمي، الزملاء من جريدة الموقف، الزملاء من قناة العربية الذين كانوا باستمرار على إتصال بي، فالحمد لله هذا يثبت أن المجتمع المدني ملتف جميعه حول قضية حرية الإعلام، و هو حق لنا يكفله الدستور، و النظام عليه أن يحترم المواثيق الدولية التي وقع عليها. و أنا اليوم مضرب عن الطعام بسبب قرار سياسي جرني إلى ذلك، و ما دام قد قرر أن يجوعني و يقطع رزقي فقد قررت أن أجوع بإرادتي.


تجربتكم المهنية تمتد تقريباً على طول فترة حكم نظام ابن علي، فكيف تقيمون الواقع الإعلامي خلال هذه الفترة ؟

عملت في الحقل الإعلامي منذ سنة (1989)، و أهم ملاحظة يمكنني قولها هنا هي أن في عديد البلدان في العالم تستمتع المجتمعات و الشعوب بما يسمى بسلطة الإعلام و نسمع كثيراً عن السلطة الرابعة، لكن في هذا البلد نحن نعيش في حالة معاكسة، فنحن ليس لنا سلطة إعلام و إنما فقط إعلام السلطة، ذلك أن تدخل السلطة في قطاع الإعلام هو تدخل مطلق، فلا توجد استقلالية من أي نوع في الساحة الإعلامية في تونس، و الحالة الفريدة الممثلة في جريدة الموقف سآتي على ذكرها فالسلطة تمسك بقبضة حديدية على كل منافذ الاستقلالية في المراحل الثلاث من العمل الإعلامي:

  1. مرحلة ما قبل إنشاء المؤسسة الإعلامية
  2. إنشاء المؤسسة الإعلامية
  3. شروعها في الإنجاز الصحفي و إيصال المعلومة و الإنتاج الإعلامي إلى المتلقـّي.

ـ فقبل إنشاء المؤسسة الإعلامية يجب عليك الحصول على وصل إعلام أو ما يسمى بالترخيص. و للحصول على وصل إعلام عليك أن تقدم ملف إلى وزارة الداخلية أي للسلطة ذاتها، و هم يدعون أن هناك مجلس إتصال و الواقع أنه لا دور له، قانون الصحافة ينص على ضرورة تقديم ملف لوزير الداخلية فيه جميع عناصر التحرير و أركان المؤسسة، إسم الجريدة أو المؤسسة و اختصاصها، على أن تحصل على وصل بالإعلام. و مجلة الصحافة تنص على أن صاحب المؤسسة الإعلامية عليه أن يطالب وزارة الداخلية بالحصول على الإعلام، ويمكن لوزارة الداخلية أن تمتنع عن تسليم وصل إعلام في حالة تقديم أي مطلب للحصول على جريدة لأي صحفي مستقل بالبلاد و لدينا عن ذلك أمثلة عديدة، و تقرير نقابة الصحفيين أورد قائمة طويلة في المؤسسات الإعلامية الصحفية أو الإلكترونية أو السمعية البصرية، فالدولة إذن هي المتسببة في عدم صدور أي عنوان جديد لا يكون موال لها.

ـ للدولة صحف موالية لها، و هي لا تمنح تراخيص إلا لأصدقائها و إن منحت تراخيص لغير أصدقائها فهي تمسك بخناقها من الناحية المادية. فكُلفت إنجاز عنوان صحفي عالية بالنظر إلى غلاء الورق و غلاء الطباعة و إنشاء المؤسسة الصحفية. فهذا الغلاء متعمد حتى يضطر مدير الجريدة إلى العمل على مقاومة الكلفة العالية بالإشهار العمومي و غير العمومي. و في هذا الإطار وضعت الدولة ما يسمى بوكالة الاتصال الخارجي و هي أسوء مثال في العالم للإتصال الخارجي، فهي لم تنشأ لغرض الإتصال الخارجي و أنا أسميها وكالة الرذيلة الصحفية لأنها لا تفعل غير التكتم على المعلومة فهي وكالة التعتيم الخارجي و الداخلي فهي تقوم منذ سنوات بشراء ذمم مدراء الصحف فتمنحهم صفحات الإشهار و في المقابل يمنحونها الصمت عن الحقائق المُرة. و هكذا نزل بالتدريج سقف الكتابة الجريئة في تونس إلى أدنى مستوى عرفته الصحافة التونسية. ففي عهد الدكتاتور السابق الحبيب بورقيبة كان على الأقل هناك بعض الجرأة النسبية. لكن الآن لم يعد بإمكان مدير الجريدة المغامرة بأي معلومة حتى و لو كانت اجتماعية فقد بلغ الأمر أن كارثة طبيعية مثل الفيضانات، تتدخل الدولة كي لا نكتب حتى عن الوفيات، فمع أن الكارثة طبيعية و حدوث كوارث طبيعية لا يدل على وجود مشاكل سياسية بالبلاد. فقد أصبحت كل الصحف كما يصفها الزميل لطفي حجي خرق بالية و أوراق فارغة تحتوي على بعض الأخبار الرياضية و أخبار الجريمة و الإثارة. و هو مشهد إعلامي لا يعكس حقيقة الكفاءات الصحفية التونسية و يؤكد هذا، كل الأقلام التونسية التي هاجرت إلى الفضائيات ووسائل الإعلام الكبرى في العالم.

من جهة ثانية ،مع أن مديري الصحف كان عليهم أن يراهنوا على القارئ، فإن نهمهم ظل يدفعهم دوماً إلى عدم المجازفة و الركون إلى طلبات السلطة ضماناً للاستزادة في الربح، إضافة إلى أن أكثر مديري الصحف بنسبة (%90) ليسوا صحفيين بالأصل، بعضهم كان مقاول بناء و بعضهم الآخر كان جنرال في الجيش، و هذا أمر لا يشرف البلد.

ـ و دائماً في إطار حديثي عن استقلالية العمل الصحفي، خلقت الدولة نوعاً من العلاقة بين الصحفي الذي هو ركن أساسي في المؤسسة الصحفية و مديري الصحف.

  1. الدولة تمتنع عن قبول أغلب القضايا الشغلية التي يرفعها الصحفيون ضد مديريهم.
  2. في قانون الشغل و في الاتفاقية الإطارية التي سهرت على إحداثها الدولة هناك العديد من المظالم في حق الصحفي ، فالدولة خلقت سيطرة من قبل مديري الصحف على الصحفيين و جعلت منهم جنودها في المؤسسة الإعلامية ليسيطروا على الصحفيين و ليسلطوا عليهم سيف الطرد و البطالة في أي لحظة تُعصى فيها أوامر المديرين، و بذلك اُوجد جيلاً من الصحفيين الصامتين ، و بدلاً من أن يكون الصحفي في مقدمة المدافعين عن حرية التعبير التي هي قضيته الأولى صار أحرص على أجره الشهري و قوته اليومي من أي شيء آخر.

كذلك يجب أن نشير أيضاً إلى أن هناك خطة كاملة لشراء الذمم تقوم بها وكالة الإتصال الخارجي مع الصحفيين الأجانب و تقوم بها أيضاً عن طريق مؤسسة الرئاسة و بالتعاون مع جمعية الصحافيين، فقد سمعنا بقرار ابن علي بتوزيع الحواسيب على الصحفيين عامة، لكن في الواقع هذا يتم لفائدة الصحافيين الذين يتمسكون بجمعية الصحافيين و يُعادون تيار الصحافيين الأحرار، كذلك فإن حي الصحافيين لا يسكن به صحافيين حقيقيين و إنما الذين أدوا أدواراً لا علاقة لها بشرف المهنة. فأغلب سكان حي الصحفيين هم ممن يوالون النظام و قدموا الوشايات في حق زملاء لهم، كسروا عصا طاعة السلطة.

فكل الأبواب إذن، أوصدت في وجه الصحفيين الأحرار، أما لو حدث و إنفلت مقال في أي جريدة من كل صمامات الأمان التي وضعتها الحكومة، و جاء المقال مخالفاً لما يشتهي النظام، تلجأ الدولة للمصادرة، فأخبار الجمهورية و الموقف في شهر فيفري الماضي قامت الدولة بمصادرتهما من الأسواق.

لكن تبقى هناك حالة وحيدة في تونس يمكن الحديث عنها وهي جريدة الموقف و هي الجريدة الوحيدة المستقلة و التي تدفع مقابل استقلالها فاتورة باهضة، فهي محرومة من الإشهار العمومي وتصادر من الأسواق بصورة مقنعة و لا يتم الإعلام عن مصادرتها، فهي تمنع في أهم المناطق و توزع في ذات الوقت في مناطق أخرى، حتى يسهل على السلطة إنكار حدوث المصادرة، كما تمنع قوى الأمن من شراء جريدة الموقف بل ويعاقب الناس على قراءتها و إن بحثت عنها في الأسواق فلن تعثر عليها بسهولة. و مع كل المحاصرة و سياسات التعجيز لتعطيلها و منعها ، لايزال هناك رجال بررة يصرون على إبقائها منبر للحقيقة على عكس ما ينشر في غيرها من صحف الموالاة التي يسميها رشيد خشانة بصحف البرافدا (Pravda) . ثم إن أهم دليل على تدخل الحكومة في الإنتاج الصحفي هي ظاهرة إنتهاك أعراض المعارضين. و لدينا على ذلك مثال الزميلة سهام بن سدرين التي بلغت في حقها حملة التشويه إلى أشنع و أقذر ما يمكن أن يصله شتم و إلى أقذر ما يمكن أن يقال في إمرأة من إنتهاك لحياتها الشخصية و شرفها. فهذه القوة و الشراسة و مستوى الإنتهاك التي بلغته هذه المقالات دليل على تدخل السلطة فليس هناك أي صحيفة في العالم يمكن أن تكتب مقالات فيها إنتهاك للأعراض و هي تعلم أن هناك قانون يعاقب على الثلب و القذف و إنتهاك الأعراض، إلا إذا كان صاحب الصحيفة لديه تطمينات على أن القضاء لن يعاقبه. و فعلاً تُـرفع القضايا لكن القضاء لا يَـنظر فيها. فالحملة كانت على شخصيات دولية و هذه الصحف مجندة، و قد رأيتُ كيف تأتي هذه المقالات جاهزة عبر الفاكس ثم يلقى بها إلى النشر و أنا أشهد للتاريخ أن هذه المقالات تكتبها الحكومة و في وزارة الداخلية من قبل محمود المهيري وعبد العزيز بن ضياء و رابح دخيل مدير الإتصالات و لا علاقة للصحافيين بها. فواقع الإعلام في تونس مؤسف و لا يشرف حضارة هذا الشعب التي تبلغ الثلاث آلاف سنة ...


منذ ما يزيد عن الخمس سنوات بقليل بدأنا نرى بعض ردود الأفعال ذات الطبيعة النضالية في المجال الصحفي أما قبل ذلك فيكاد أن يكون النضال في هذا القطاع معدوماً، فإلى ما يعود ذلك برأيكم ؟

يمكنني أن أوافق على أن هناك مد نضالي في السنوات الأخيرة، لكن أيضاً منذ التسعينات كان هناك صحفي حاول كسر عصا الطاعة وهي بادرة الزميل الصحفي القدير كمال العبيدي الذي كان يشتغل في نشرة الأنباء ثم تجرأ على إجراء حوار مع من تقدم للترشح منافساً للجنرال بن علي لرئاسة الجمهورية وهو الدكتور الفاضل المنصف المرزوقي و قام بنشره في جريدة فرنسية، فتعرض لعدد من التحرشات والهرسلة، غادر بعدها البلاد، إذن كانت هناك مبادرة ثم تطورت مع الأخوين بن بريك وسهام بن سدرين ثم ظهر لطفي حجي ثم بدأ عدد الصحافيين يتكاثر ممن هم مستعدون لكسر عصا الطاعة، و أنا أرى أن هناك صحوة رغم ما يبدو عليها من محدودية ( فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذنالله) [ آية ] فالفئة القليلة الآن تريد التمسك بميثاقشرف المهنة الصحفية و ترغب في كسر عصا الطاعة و يرفعون شعار الكلمة الشجاعة و الكلمة الحرة و الصادقة و بدأ يتزايد العدد فأحدثنا ضوضاء إيجابية في الساحة و دفعنا من أجسادنا و حريتنا و من مكاسبنا المادية والمعنوية.

ولكن ولادة نقابة الصحافيين التونسيين التي مثلت محطة هامة سنة 2004 كانت دليلاً على أن هذه الصحوة حقيقية و التحقنا نحن الصحفيين في تونس بالعمل النضالي الحقوقي مثل قطاع المحامين و قطاع الجامعيين و قطاع أساتذة الثانوي و الآن أعدادنا في تزايد و ليس في تناقص فكل يوم يرغب عدد جديد من الصحافيين في تصويب أخطائهم السابقة و هو دليل على أن هناك تطور و هذا لا يظهر في المؤسسة الصحفية لأنهم يُمنعون من ذلك، لكنهم يعبرون عن مواقفهم خارج تلك الأطر الرسمية مثل نقابة الصحافيين و شبكة الأنترنات التي تعج بعديد الأقلام الصحفية. فداخل الصحف لا يسمح لأحد، فأنا لم يسمح لي و طردت و لطفي حجي أطرد من مجلة حقائق، فتمظهر الصحوة الجديدة برزت في النقابة و في الشارع و في منظمات المجتمع المدني و في شبكة بالأنترنات و في وسائل الإعلان بالخارج ،و دخول ثورة الإتصالات في نطاق هذا الحراك خدمت هذه الحساسيات لكن وجود ظاهرة العصيان عند الصحافيين مع كونها لم تتحول إلى سياسة تحريرية تسير على نهجها الصحف و تكتب في المقالات. إلا أن ظاهرة جديدة قد بدأت وهي ظاهرة الإعتصامات داخل المؤسسات الصحفية و العرائض التي تصدر من بعض الصحافيين، ظاهرة الإضرابات عن الطعام للصحافيين، كلها تأكد أن هناك حالة من التململ النسبي الذي سيستشري إيجابياً في المراحل القادمة، كذلك من المحطات الهامة مؤتمر جمعية الصحافيين في ديسمبر 2005 و ماعبرت عنه مداخلات عدد من الصحافيين العاملين في مؤسسات صحافية موالية للحكومة و الأحداث التي جرت في ديسمبر 2004 بينت أن بداية انتعاشة لمد نضالي.

كما أن سقوط قائمة السلطة لأن أصحابها لم يقدموا أنفسهم على أنهم قائمة السلطة، كان دليل على أن الصحافيين قد بدؤوا في معاقبة السلطة على ستة عشر سنة من محاصرة للإعلام و الإعلاميين، ثم أظن أن الفضائيات و الأنترنات خلقت لدى التونسي نوعاً من الإعلام الموازي لإعلام السلطة، فوجودي في العربية نت و وجود لطفي حجي في الجزيرة نت و رشيد خشانة في الحياة و سهام بن سدرين في مجلة كلمة مع نزيهة رجيبة و عديد الصحفيين في مواقع إلكترونية أو صحف في الخارج أوجد إعلاماً موازياً ،و بالتالي ذهب زمن التكتم على الحقائق. و مع أن السلطة تجتهد في التكتم على المعلومات و الحقائق داخل مؤسساتها فإن هناك مؤسسات موازية توصل المعلومة إلى الشارع التونسي و الخارج معاً فالحكومة لا تستطيع أن تتحكم في الفضائيات، ورغم محاصرتها لشبكة الأنترنات و حجب مواقعها فإن هناك وسائل ثانية تصل عن طريقها المعلومة إلى بريدك الإلكتروني ثم ظاهرة الوساطة (les proxys) و الدخول إلى المواقع المحجوبة عن طريقها. و أنا كل ما أريد قوله الآن يصل إلى الخارج و يصل أيضاً إلى الداخل عن طريق الخارج.


[يتبع]


1 | 2

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

بسم الله
السلام
عليكم يا محمد صار زمان ما شوفناك
ما زلت في باريس
إشتقنا اليك
saber mrabet
beniselim@hotmail.com